مميزات تطور اللغتين العربية والآرامية-الجزء الأول

المشرفون: ابو كابي م،مشرف

صورة العضو الرمزية
ابو كابي م
مشرف
مشرف
مشاركات: 2136
اشترك في: الثلاثاء يناير 26, 2010 10:00 pm

مميزات تطور اللغتين العربية والآرامية-الجزء الأول

مشاركة غير مقروءة بواسطة ابو كابي م »



مميزات تطور اللغتين العربية والآرامية

- المطران بولس بهنام

مما لا شك فيه اننا لا نستطيع دراسة كل لغة من هاتين اللغتين بمفردها , من ناحية نشوئها واكتمالها وتطورها , ما لم ننظر الى الاحوال التي مرّت بها أختها الثانية , وذلك لأنهما نشاتأ في ظروف متشابهة , وطرأت عليهما أحوال متقاربة . هذا من جهة , ومن جهة ثانية لا يمكن فصل أية لهجة من لهجاتهما عن رفيقاتها للعلاقات الوثقى التي تربط بعضها بالبعض الآخر . فاذا أردنا السير مع احداهما منذ نشوئها الى نهاية نضجها لا بد لنا من الالتفات الى الخطوات التي تدرجت فيها شقيقتها الثانية , وعليه نقرّر أن الذين درسوا نشوء اللغة العربية واكتمالها وحدها سقطوا في ورطات كثيرة كان في مقدورهم اجتنابها لو نظروا الى نشوء اختها الآرامية ونضجها
وأهم المميزات التي نستطيع ملاحظتها في هاتين اللغتين الشقيقتين هي ما يأتي

كثرة اللهجات البدائية في كل منهما

نشأت كل من هاتين اللغتين ولكلّ منهما لهجات كثيـرة بالنسبة الى كثرة القبائل التي تتكلمها , وكلما انفصلت قبيلة جديدة من المجموعة الكبرى وتباعدت عنها فترة من الزمن ، نشأت لديها عناصر لغوية جديدة ، وتطورت اللفظة بحسب المؤثرات القبلية والاجتماعية , وتولّدت من ذلك لهجة جديدة من اللغة الأم , وكلما تقاربت قبيلتان أو أكثر وتمازجتا زالت الفوارق اللغوية , وتكوّن من ذلك المزيج لهجة خاصة أخذت عناصرها اللغوية واللفظية من جميع اللهجات المتمازجة , وهكذا حتى انتهى الأمر الى اندراس لهجات كثيرة , وانفراد غيرها بالسيادة لدى افراد الأمة وقبائلها
ومما لا يرتاب فيه علماء الساميات أن القبائل القاطنة في أصقاع الجزيرة العربية النائية استطاعت الاحتفاظ بلغتها السامية الأصلية احتفاظاً ملحوظاً , فلم يطرأ عليها الا القليل من التبدل والتطور , وذلك لبقاء هذه القبائل منعزلة مدة طويلة من الزمن عن بقية الأقوام , على العكس من كثير من القبائل السامية التي تأثرت لغتها بالحضارات المجاورة القريبة اليها وهذه هي الميزة الخاصة التي تحوزها اللغة العربية دون بقية أخواتها الساميات
ولكنه مع ذلك حدثت هجرات متواصلة لقبائل كثيرة من القبائل المتبدية في طول الجزيرة وعرضها وهو ما أثر في اللغة تأثيراً كبيراً فنتجت عنه لهجات متباينة كثيرة , غير أن علماء الساميات اتفقوا على أن يميزوا منها لهجتين كبيرتين احداهما في الجنوب والثانية في الشمال , مع ان كل لهجة من هاتين اللهجتين تفرّعت منها لهجات أخرى كثيرة , هذا من جهة , ومن جهة ثانية أن هذا التقسيم ليس دقيقاً لأننا لا نجد حدوداً طبيعية تفصل القسم الشمالي من الجزيرة عن قسمها الجنوبي
الا اننا اذا استعرضنا الرُقم العربية المكتشفة في أصقاع كثيرة من الجزيرة , نستنتج منها انه لم يكن في الجزيرة لهجتان وحسب بل هنالك لهجات كثيرة يصعب ضمّها الى قسمين متساويين ، وكل لهجة كانت تسمى باسـم اقليمها او تنتسب الى أكبـر قبائلها , ولم يكن لكلمة " عرب " او " عرباء " المعنى الذي نعرفه اليوم بل كانت تطلق على جميع القبائل المنتشرة في البادية المتنقلة بحسب حاجتها الى الماء والمرعى .

وأشهر القبائل الكبرى التي عرفناها في الجزيرة العربية , والتي درس العلماء آثارها الباقية , هي القبائل اللحيانية والثمودية والمعينية . ومما لا شك فيه أن لكل قبيلة من هذه القبائل لهجة خاصة بها , قد يتعذر على القبيلة الثانية فهم مفرداتها . وقد قدم علماء الساميات دراسات قيمة في لهجات هذه القبائل
ومع أن آثار هذه القبائل اللغوية هي عربية , ولا سيما الرقم اللحيانية , لأن فيها الحروف العربية التي تخلو منها بقية اللغات السامية كالزال والتاء والغين والضاد , ولأن فيها أفعال التفضيل وعلامة التنبيه وهما من المميزات الخاصة بالعربية وحدها , أقول : مع ذلك نجد هذه اللهجات مشوّبة بكلمات آرامية على الأخص , وهو ما يدل على تعاون هاتين اللغتين الشقيقتين منذ أقدم عصورهما التاريخية
هذا بعض ما وصل الينا من اللهجات العربية الشهيرة , ومما لا شك فيه أن هنالك لهجات كثيرة غيرها نشأت عند القبائل العربية الكثيرة ثم تقلصت رويداً رويداً حتى زالت من الوجود لاندماجها في اللهجات الكبرى الباقية
وأما امتزاج هذه اللغات الكثيرة فقد حدث شيئاً فشيئاً . ومن المعلوم انه في القرنين الثالث والرابع الميلاديين شرعت اللهجات الشمالية تنتقل من قوة الى قوة وتزيد أهمية وانتشاراً , وتسجل لنفسها في جميع الميادين الحيوية صولة وانتصاراً , بينما أخذت اللهجات الجنوبية تنحدر نحو الهوة حتى كادت تزول في القرن السادس الميلادي , وذلك من جراء فقدان مواطنها لحريتها ولاستقلالها السياسي عندما خضعت للحبشان والفرس , وهكذا أخذت تلك اللهجات في التلاشي , وقد افسحت المجال لانتشار اللهجات الشمالية , التي انفردت بالسيادة المطلقة تقريباً قبل ظهور الاسلام
ومع هذا كنا نجد بعد الاسلام لهجات متباينة . والشاهد على ذلك تباين لهجات القراءة حسبما هو معلوم من تعدد القراءات القرآنية الكريمة , وهو ما يعرفه كل مطلع على هذه القراءات
والشيء الذي يمكن تقريره بعد هذا العرض السريع أن اللغة العربية الباقية هي مزيج من لهجات مختلفة امتزجت كلها بعضها ببعض فكونت لغة واحدة
ولكثرة اللهجات بحسب كثرة القبائل والجموع في اللغة العربية حتى أصبحنا نجد أسماء كثيرة لمسمى واحد كما هو معلوم , ولما اجتمعت هذه اللهجات المختلفة . وصارت لغة واحدة , ظهر فيها بعض الالفاظ في مظاهر متباينة , وصيغ مختلفة , فنرى مثلاً كلمة " نجم " تجمع على أنجم ونجوم ونجم وانجام وكلها بمعنى واحد . ومثلها كلمة " عبد " فنقول في جمعها عبيد وعبد وعبدان وكلها بمعنى واحد
وانك لتجد أمثلة كثيرة لهذا النوع في المعاجم العربية , وهي الدلالة الثابتة على انها كانت كلها صيغاً مختلفة لكلمة واحدة . استعملت كل قبيلة من القبائل صيغة خاصة بها , ولما جمعت هذه المفردات والصيغ في المعاجم اللغوية , نشأ منها هذا الفيض الغزير من المفردات الدالة على المعنى الواحد
وما قلناه في نشوء اللغة العربية نقوله في نشوء اللغة الآرامية , فهذه أيضاً مثل أختها العربية تفرعت الى لهجات متباينة . لا لكثرة القبائل الناطقة بها , بل لاختلاط أهليها بالأمم المجاورة أكثر من اختلاط اخوانهم العرب , وهو ما أضفى على اللغة الآرامية أثواباً جديدة لم تألفها في فجر وجودها , ومما هو معلوم لدينا ان للآراميين لهجتين عظيمتين منذ الازمان القديمة , الاولى وتسمى شرقية , وتشمل لهجات بلاد العراق عامة , والثانية وتعرف بالآرامية الغربية , وتشمل لهجات سورية وفلسطين وطور سينا
والفرق بين اللهجتين يعود الى كيفية النطق والى نوع الأعجمي من الألفاظ الدخيلة , واتجاه الصيغ الأدبية وغيرها , وكل لهجة منهما تركت آثاراً خطيّة منذ أقدم العصور , وقد درسها علماء الساميات الا أنهم لم يستطيعوا الى الآن وضع كتاب في قواعدها وأصولها . ولكن اذا قابلنا النصوص الأثرية الكثيرة المكتشفة بما هي عليه اللغة الآرامية ( السريانية ) الآن , نجد أن اللغة هي هي لم يطرأ عليها تبديل كبير , وهو ما نستطيع معه أن نتوصل الى أصول اللهجات الاولى . وهذا ما سار عليه علماء اللغة الآرامية اعتباراً من القرن الرابع الميلادي الى العصور المتأخرة , فتركوا لنا مجلدات هامة في قواعدها وأصولها , ووضعوا المعاجم الهامة في تحري ألفاظها ومفرداتها , على ان أعظم الذين تناولوا هذه المواضيع بالدرس الدقيق هو العلامة يعقوب الرهاوي في القرن التاسع ( المتوفي سنة 807 م ) ، والفيلسوف غريغوريوس ابن العبري في القرن الثالث عشر ( 1222 – 1286م ) . ومما كتبناه نستطيع المقابلة بينه وبين النصوص الأثرية التي بين أيدينا , والتخطي الى استنتاج نتائج هامة لا يمكننا الوصول اليها بغير هذه الطريقة .

أما سبب نشوء اللهجات الكثيرة لهذه اللغة . فهو سعة انتشارها , وكثرة الشعوب التي امتزج بها أهلها , فقد شملت بلاد الشام والجزيرة العليا والعراق الى حدود بلاد فارس شرقاً , والى بلاد الارمن واليونان وآسيا الصغرى شمالاً ، وحدود بلاد العرب جنوباً . ولم يكن من الممكن حفظ هذه اللغة من التشعب الى لهجات شتى بحسب قابلية كل شعب من الشعوب المختلفة المتكلمة بها , لذلك نرى فروقاً عظيمة بين لهجاتها حتى لا يكاد المتكلم بلهجة نينوى مثلاً ان يفهم المتكلم بلهجة الشام , ولا هذان يستطيعان ان يفهما المتكلم بلسان فلسطين مما أثبته علماء هذه اللغة

وهنا يجدر بنا الالماع الى اللهجتين الآراميتين الكبيرتين , واللهجات المتفرعة عنهما واليك ذلك

أولاً - اللهجة الشرقية

ان اللهجة الآرامية الشرقية هي اللهجة الفصحى النقية التي انتشرت يوماً ما في بلاد بابل , وما جاورها من الأمصار , وفيها نزل جانب من سفر النبي دانيال وغيره من أسفار العهد القديم . وهي عينها التي تعلّمها اليهود في السبي أيام نبوخذ نصر ق.م بسبعة قرون , واستعملوها كذلك بعد رجوعهم من الجلاء .

الا أن هذه اللهجة عينها تفرعت الى لهجتين متباينتين : الأولى , وهي الفصحى وكانت لغة الخاصة , والثانية لغة العامة وتمازجها ألفاظ واصطلاحات غريبة كثيرة

ويسمي الكتاب المقدس هذه اللهجة عامة ( آرامية ) . وسماها ربانيوا اليهود (سريانية) ودعاها العهد الجديد العبرانية

وأهم هذه اللهجات المتفرعة عن اللهجة الشرقية في بلاد بابل هي اللهجة المانوية واللهجة الماندية وهي لهجة الصابئة في بلاد بابل . وما زالت موجودة الى الآن بتغيير ضئيل , ويلحق علماء الساميات بها اللهجة النبطية ايضاً

ومن فروع اللهجة الشرقية أيضاً اللهجة اليهودية بقسميها , القسم اليهودي والقسم الجليلي , ثم اللهجة السامرية واختص بها سكان مدينة السامرة وما جاورها , وقد أشبعنا هذا الموضوع درساً في مقال ( الثقافة السريانية ) الذي نشرناه تباعاً في مجلتنا (المشرق) سنة 1946 ص 750 – 756

ثانياً - اللهجة الغربية

كانت هذه اللهجة منتشرة في سورية كلها اعتباراً من مدينة الرها الشهيرة , ومن نهر الفرات شرقاً الى البحر المتوسط غرباً , وتشتمل ربوع لبنان كلها , وكانت لغة الآداب منذ أول عهد اللهجة قبل العصر المسيحي بقرون عديدة , ونقلت عن الهياكل الوثنية والتماثيل والصخور والاسطوانات وغيرها , ولم نجد لها فروعاً هامة خلافاً لهجة الشرقية

ويحدثنا العلامة ابن العبري عن تشعب اللغة الآرامية على أثر انتشار أبنائها في الأصقاع , واختلاطهم بالأمم المجاورة لهم , وابتعاد اللهجات الآرامية بعضها عن بعض ابتعاداً عظيماً , ويقول : " يجب ان نعلم أن اللغة الآرامية انتشرت في بلاد قاصية أكثر من جميع اللغات ، وهو الذي سبب تشعبها حتى أن الذين كانوا يتكلمونها كانوا لا يتفاهمون الا بترجمان . وكأنهم يسمعون بعضهم من بعض لغة غريبة , فإن سكان سورية يتكلمون لهجة غريبة عن لهجة فلسطين , وكذلك المشارقة الذين ابتعدوا كثيراً عن الأصل أكثر من هؤلاء واتبعوا اللهجة الكلدانية وانتسبوا اليها "

واذا اعتبرنا هذه الناحية حسبما يرويها هذا اللغوي الفيلسوف نجد الفروق التي نشات بين اللهجات الآرامية اكثر تأثيراً من الفروق الناشئة بين اللهجات العربية , ونقرّ أن هذه اللهجات ابتعدت بعضها عن بعض بعداً شديداً , الا أننا نعتقد أن الفروق نشأت بين اللهجات المحكيّة فقط دون لغة الكتابة والادب , لأن الآثار الآرامية المكتشفة تدلّ على أن تلك الفروق لم تكن فاصلة بين اللهجات الآرامية المختلفة بالشكل الذي شرحه الفيلسوف اللغوي . ومهما يكن فإنا نجد أن جميع اللهجات تلاشت ولم يبق الا اللهجتان المعروفتان , وهاتان أيضاً لا تختلفان الا باللفظ فقط, وهما تتّفقان في كل شيء سواه

ومن مراكز الثقافة الآرامية التي أفاد منها أكثر ما يكون الفكر العربي مدينة حرّان الآرامية الوثنية التي ازدهرت في كثير من نواحي المعرفة الانسانية من علم وأدب ودين واتصلت بالفلسفة اليونانية القديمة , واستخدمها علماؤها في البلاط العباسي في نقل القسم الكبير من الفلسفة اليونانية , من اللغتين اليونانية والآرامية ( السريانية ) الى العربية

ونصيبنا من بحث اللهجات العربية والآرامية في موضوعنا هذا هو النظر الى التطورات المتماثلة التي طرأت على هاتين اللغتين الشقيقتين من جهة . والتأثير الذي خلّفته احداهما في الأخرى , وعلى الأخص في القسم الشمالي من الجزيرة العربية , وفي أنحاء فلسطين والشام وتدمر , بتأثير مملكتي تدمر والبطراء , وهو ما كان سبباً في حيازة اللغة العربية مفردات كثيرة ليس في الشمال فقط بل في أنحاء الجزيرة العربية , على ما أنبأنا به علماء الساميات

ومما تجب الاشارة اليه أن اللغة العربية الشمالية , القريبة من العمران والمدنية , استطاعت ابتلاع بقية اللهجات المنتشرة في أواسط الجزيرة وفي جنوبها , وانفردت بالسيادة المطلقة آخذة مادتها الغزيرة من جميع اللهجات القديمة البائدة , ومستفيدة من شقيقتيها القريبتين الآرامية والعبرية ، ممّا أغناها بالألفاظ الغزيرة , وجمّلها بالمادة اللغوية التي لا تنضب , الا أن الآرامية وان تلاشت لهجاتها الفرعية , فان لهجتيها الأساسيتين الشرقية والغربية لم تزالا في قيد الحياة , وفيهما مادة لغوية وأدبية صالحة , وهما تسيران جنباً الى جنب منذ العصور الأولى للمسيحية , لما أفادتاه من غذاء أمدهما العلماء الكبار الذين نبغوا في شتى العصور

والشيء المهم الذي نقرره , بعد المرور على جميع اللهجات العربية والآرامية . هو أن هاتين اللغتين خضعتا لظروف واحدة ، وسارتا تحت تأثيرات متشابهة , وتعاونتا في جميع عصورهما , على ما نراه في السطور التالية , ولذلك لا يمكن دراسة نشوء كل منهما بمفردها ما لم يبحث في نشوء الثانية منذ مطلع وجودها الى عصر النضج والازدهار والانتاج

وما خلا امتزاج لهجات كل من اللغتين وتكوين لغة عربية موحدة , ونشوء لغة آرامية واحدة أيضاً في المادة مختلفة في اللفظ , نجد اللغتين الكبيرتين العربية والآرامية تتقاربان في فترات كثيرة من فترات تاريخهما , وذلك بتأثير الاتصالات التجارية وغيرها , فتؤثر احداهما في الأخرى وتكوّن فيها مادة جديدة , وقد تكوّن أيضاً أساليب جديدة في اللفظ والتعبير . ولولا انتشارهما الواسع وتزاورهما المستمر لما رأيناه هذه الوحدة الى الآن بينهما ولحرمنا أموراً او فوائد جنيناها من ذلك التزاور وذاك التقارب , ولا يخفى ان كثرة لهجات كل من اللغتين , واستمدادها مواد عديدة بفعل الزمن كل ذلك أسعفهما بالقوة والحياة ، ووسع نطاقهما . وسما بهما الى مستوى أرقى اللغات في العالم القديم

وبعد هذه النظرات العاجلة نتقدم الى تحري موضوعنا بأقسامه الكبرى واليك ذلك

ثالثاً – العلاقات التاريخية بين العربية والآرامية

علمنا سابقاً ان هاتين اللغتين أبصرتا الوجود كلتاهما في نحو مطلع الألف الثاني قبل الميلاد , ولا يمكن تقديم احداهما على الأخرى تاريخياً , وان كانت الآرامية تركت آثاراً نفيسة سبقت فيها الآثار العربية بعهد طويل , وذلك لأسباب اجتماعية تخص الامتين الساميتين العربية والآرامية , فان العربية بقيت وقتاً طويلاً منعزلة في فلواتها الواسعة بعيدة عن أعين التاريخ , ويظهر أن العرب في تلك الأيام لم يميلوا الى تدوين أخبارهم لأسباب نجهلها , وربما كان ذلك لعدم انتشار الكتابة عندهم الى حين ظهور مدنيات عربية في أعماق الجزيرة العربية , حيث تركت لنا آثاراً وان كانت قليلة الا أنها تدل على مستوى هام في الحضارة والمدنية , وأما اللغة الآرامية فقد تبعت أهلها الآراميين ، فاحتكّت بالأمم المجاورة , ونشأت فيها حضارات باذخة في وادي الرافدين وسهول سورية , واصبحت لغة دولية بالمعنى الصحيح منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد ، وهذا هو السبب في ظهور آثارها سابقة للآثار العربية بزمن طويل

لما كانت العربية والآرامية تنحدران من أصل سامي واحد كان لا بد لهما من التعاون التاريخي في مختلف عصورهما . وفعلاً تمّ الاتصال بين القبائل العربية الشمالية وبين أمم سورية والعراق الناطقين بالآرامية منذ أقدم العصور التاريخية , لأسباب كثيرة قد تكون حربية أو تجارية او اجتماعية , وبهذه الواسطة تبادلت اللغتان القوة والحيوية من الوجهتين العلمية والأدبية ، وتوثقت بينهما العلاقات اللغوية , وهو ما أكسب اللغة العربية على الأخص مادة غزيرة لا نستطيع حصرها الآن لتقادم العهد عليها

ونجد , عدا ذلك , قبائل جمّة آرامية تتوغل في الجزيرة العربية , وتمتزج بالعرب أنفسهم حاملةً معها لغتها وحضارتها وساكبة اياها في جدول اللغة العربية , وقد وجد علماء الساميات في اللهجات العربية المنتشرة عصرئذ مادة لغوية غزيرة جزموا أنها ليست عربية لأنها تدل على معان دينية وعلمية وعمرانية لم تكن مألوفة عند العرب , بل هي خاصة بالاقوام العبرية والآرامية , وقد أفادت العربية من ذلك قوة جديدة

على أن أقدم ذكر لبدء العلاقات بين القبائل العربية القديمة وسكان سورية الآراميين والعبريين , ورد في النصوص الآشورية , وتسميهم هذه النصوص باسم " قدري " كما يسميهم العهد القديم باسم قيدر او بني قيدار ، وهم من ذرية اسماعيل بن ابراهيم الخليل وكانوا رعاة يربون قطعان الضأن والابل ويبيعونها لأهل صور خصوصاً , ويسكنون الخيام السود المؤلفة من الشقق , وذكر أشعيا النبي بعض مساكنهم وذكر أرميا النبي العبراني قبائل أخرى من بني قيـدار فسـماها ( حاصور ) مسـتمدة من الكلمة العبرية ( حصيريم – الحضائر ) وهم سكان حضائر حجرية مغطاة بالعوسج والشوك لحماية السكان والقطعان من الوحوش واللصوص

وتذكر النصوص الآشورية قبائل أخرى وتسـميهم ( بني قدم ) ومعنى ذلك بالعبرية القديمة ( بني المشرق ) . ويطلق هذا الاسم على البدو الضاربين عصرئذ في الصحراء السورية العراقية . وأطلق عليهم فيما بعد اسم ( Sarakimai ) وهي مشتقة من كلمة (الشرقيين) العربية , ومثلها كلمة الآرامية , وقد رافقوا النبطين دهراً طويلاً . ويذكر بنوقيدار أيضاً في الرقم الآشورية في أخبار حروب أسرحدون ( 681 – 669 ق. م ) , وفي أخبار ابنه وخلفه آشور بانيبال ( 668 – 626 ق. م ) ويتابع ذكر القبائل العربية في الرقم الآشورية , وكثيراً ما سمّوا بالعرب (Aribi ) ويتوارد ذكرهم في العصور التالية

ومن هذه اللمحة الجيزة نستنتج حصول علاقات متواصلة بين القبائل العربية , والأمم الآرامية التي كانت منتشرة في تلك العصور على ضفاف دجلة والفرات وفي سهول سورية وما جاورها من المناطق . وهو ما أوجد علاقات متواصلة بين اللغتين العربية والآرامية منذ أقدم عصورهما

هذا ما رايناه في شمالي الجزيرة العربية , أما في الجنوب فمن الراهن ازدهار أربع ممالك متحضرة فيه أقدمها معين , ثم سبأ وحضرموت , ثم قتبان . واقدم اتصال يذكره لهم المؤرخون بسكان وادي الرافدين – ومنهم الآراميون – كان في الألف الثاني ق. م , وقد اتصلت لغتهم بلغة أولئك الأقوام وروحيتهم بروحيتهم , فقد رأيناهم يعبدون آلهة عبدها الآراميون وغيرهم قبلهم , وأكبرها الإله ( سين ) ، والمعلوم ان هذه التسمية للقمر قديمة جداً وما زالت موجودة في اللغة الآرامية الحاضرة . وقد سمّوه ايضاً (سهر) والمعلوم أن القمر بالآرامية الحاضرة يسمى (سهرو او سهرا) . وما عدا ذلك فقد وجد المنقبون معبداً للإله ( سين ) في موضع من حضرموت يدعى ( حريصة ) ، ووجدوا بعض النقوش الحضرموتية تشـير الى أنه معبد الإله ( سين ) ، وكذلك عبد القتبانيون الإله ( عم ) ومعناه شعب وقوم في الآرامية ، وهو أيضاً من آلهتهم


ومما يؤيد علاقة العرب بالآراميين أكثر من هذا محالفة الأمير العربي ( جندب Gindibu ) لهدد عزيز ملك دمشق الآرامي على الملك الاشوري شلمناصر الثالث الذي حاربهم سنة 851 ق. م في موقعة ( القرقار ) شمالي حماه . ومما لا شك فيه أن محالفة مثل هذه تخلق وحدة وألفة بين المتحالفين سواء من الوجهة الحربية أو الاجتماعية أو اللغوية الأمر الذي يؤيد اتصال العربية بأختها الآرامية اتصالاً متواصلاً .

واذا وجهنا انظارنا الى الرُقم التأريخية التي ظهرت نتيجة تنقيبات العلماء في خرائب المدن العربية المندرسة وغيرها , نجد ما يدهشنا من العلاقات الوثقى بين العربية والآرامية , وهو ما يؤيّد تعاون هاتين اللغتين الشقيقتين في جميع عصورهما , ويبرهن على استمرار الاتصال اللغوي والديني والاجتماعي بين ذينك الشعبين العظيمين

هذه قبائل ثمود وداراتها في شمال الحجاز , فهي قد تركت لنا كتابات هامة تفيدنا في بحثنا هذا , وقد تركتها إما في مواطنها هذه أو في غيرها , ولوحظ أن خطوطها وتعابيرها كانت مستعملة عند قبائل عربية أخرى , كبلاد نجد وهضاب طور سيناء , ولا يعلم هل انتقل هذا الخط من الثموديين الى تلك المناطق أو القبائل . أو أن الثموديين أخذوا منهم . ومهما يكن الأمر فالمهم في موضوعنا وجودها لا أماكنه .

وأهم رقيم من الرُقم الثمودية , وتأريخه سنة 156 م, نراه مزيجاً من الكلمات العربية والآرامية . وإليك ذلك حسبما حلّه العالم لتمان ونثبته بالحروف العربية : " دنه قبور صنعه كعبو برحرتب للقص برث عبد منوتي أمه دو هلكت في الحجر شنة ماه وشتين وترين بيرج تموز , ولعن مرى علما من يشنا القبور ومن يفتحه حشى يلده , ولعن من يغير دا على منه " . وترجمته في العربية : " هذا القبر صنعه كعب بن حارثة للقيط بنت عبد مناة أمه التي هلكت في الحجر سنة مئة واثنتين وستين من شهر تموز , ولعن رب العالمين من غيّر هذا القبر , ومن فتحه يمس بأولاده ( يحس ) ولعن من غيّر الذي كتبه اعلاه ..." .

في هذا الرقيم ثمان وثلاثون كلمة , عشر كلمات منها آرامية صرفة , والبقية عربية وثمودية , وذلك يؤيد ما نحن بصدده , فكلمات " بر وبرث وشنة وشتين وترين وبيرح وشنا وحشى " كلها آرامية ، وما عدا ذلك ففي هذا النص ورد عدد السنين بالاسلوب الآرامي وهو تقديم العدد الكبير على الصغير كقوله ( شتين وترين ) , وعن الآرامية أخذت العربية هذا الاسلوب في العدد واستعمله العرب القدماء كثيراً .
ولدى تأمل بسـيط في هذا الرقيم نجد العربية والآرامية متّحدين فيه كأنهما لغة واحدة . وقد نجد رُقماً أخرى غيره جرت هذا المجرى , وربما جرى غيرها مجرى اللغة العبرية . فمزج بين اللغات الثلاث العربية والآرامية والعبرية . ولكن مما لا شك فيه أنه في القرن الرابع الميلادي كانت اللغة الأدبية لم تزل اللغة الآرامية

هذا ما يلزمنا قوله في صدد الرُقم الثمودية , وهو كاف ليدلنا على التلاقي المكين بين اللغتين العربية والآرامية , ويفسر لنا تأثر العربية بأختها الآرامية

وهنالك في منطقة بين جبل الدروز وتلول أرض الصفا ( تسمى الحرة ) وُجدت كتابات عربية كثيرة اتفق علماء الساميات على ان يسموها ( الكتابات الصفوية ) نسبةً الى الصفا حيث ساح كثيرون من المستشرقين فجمعوا قسماً عظيماً من هذه الكتابات وحلوا أبجديتها , ولكنها بقيت غامضة الى أن زارها العالم ( ليتمان ) وجمع منها أكثر من الف وأربعمائة كتابة , وعاد الى بلاده ودرسها , فتوصل الى نتائج هامة عجز عنها غيره , فحلّ جميع رموزها وفك معميات أبجديتها التي تتألف من ثمانية وعشرين حرفاً كما هي في العربية . ويعتقد الأستاذ ليتمان ان هذه الكتابات ترجع الى القرون الثلاثة الاولى بعد الميلاد , وعرف ان أصحابها كان لهم اتصال بالمدنيات المعاصرة لأنهم يؤرخون بحوادث مشهورة كحروب النبط , أو حرب الفرس مع الروم , أو تاريخ بصرى


ان الكتابات الصفوية هذه هي بلا شك كتابات عربية الا أنها تحوي كلمات آرامية كثيرة , وتذكر آلهة آرامية واصطلاحات آرامية لا عهد للعربية بها

ففي أحد النقوش الصفوية مثلاً كلمة ( داد ) معناها ( عم ) وهذه مادة آرامية قديمة وان كان لها نفس المعنى بالعربية

وكذلك نجد في نقش آخر اسماء آلهة آرامية مثل ( بعل شمين ، اوشر دسر و وشيع القوم ) . ومعنى ( بعل شمين : آلهة السـموات ) و ( أوشر دسر : حارس النبات ) , و ( شيع القوم ) من آلهة الأنباط وهو لا يشرب الخمر ( دى لاشتا حمر ) . وقد اختلف المستشرقون في معنى هاتين الكلمتين , فذهب ( ليتمان ) الى أن الأولى ( آرامية ) والثانية ( عربية ) . وقال غيره أنهما عربيتان , أما نحن فنقول أنهما كلمتان آراميتان , الأولى مستمدة من فعل ( سيع سيع ) ومعناها عضد مثل ( ايد , نصر ) لتساوي السين والشين في الأبجديات الصفوية . والثانية ( قوم ) هي آرامية أيضاً وبالمعنى العربي المعروف ( قوم , شعب , جماعة ) ومعنى الجملة المركبة ( نصير القوم )

وأنت ترى في هذه النقوش مادة آرامية لا تمت الى العربية بصلة , وهذا ما يؤيد تلاقي اللغتين الشقيقتين في هذه المنطقة أيضاً شأنها في غيرها . ومصداقاً لما ذهبنا اليه أن الأستاذ ليتمان وجد في تحرياته الكثيرة للهجة الصفوية هذه مادة غزيرة غير مألوفة في العربية , أخذت من الآرامية والعبرية , ولاحظ أسماء أعلام كثيرة غير معروفة في العربية . كما وجد أفعالاً غريبة عن العربية , وأساليب أعجمية كلها استمدت من الآرامية او العبرية أحياناً

واكتشف الأثريان فريدريك ماكلير Fredric Macler ورينيه دوسو Rene Dussaud نقشاً مهماً آخر في منطقة الحرة نفسها , في وادي السوط الذي يصب في وادي الشام بالنمارة وذلك في الرابع من نيسان سنة 1901 , وهذا النقش بالأبجدية النبطية وباللغة العربية تتخلله بعض كلمات آرامية , واليك كلماته بنفسها ومقاطعها

أولاً - تي نفس مر القيس بر وملك العرب كله ذو أسر التاج

ثانياً - وملك الأسدين ونزارو وملوكهم

ثالثاً - وهرب مذ حجو عكدي وجاء

رابعاً - بزجاى في حبج نجران مدينت شمر وملك معدو ويمن بنيه

خامساً - عكدي هلك نة 223 يوم 7 بكسلول بلسعد ذو ولده


وهذه ترجمتها العربية كما قرأناها نحن بعد تحريات ومقابلات كثيرة باللغة السريانية الحاضرة وهي ولا شك الآرامية بثوبها الجديد


أولاِ – هذا قبر امرىء القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي عقد له التاج

ثانياً – واخضع الأسدين ونزاراً وملوكهم وهزم مزجج و ( منعه أو عطله أو صده ) وجاء

ثالثاً – شتت ( بزج ) وأسقط نجران مدينة شمر واخضع معداً وسلّط بنيه

رابعاً – ( على ) الشعوب فسموا الى العلى فلم يبلغ ملك مبلغه

خامساً – وذريته وهلك سنة 322 في اليوم السابع من شهر كسلول ( كانون الاول ) . فليسعد الذين خلفهم ( فليسعد ولده )


واليك شرح ذلك وتعليل مخالفتنا في قراءة هذا النص لجميع علماء الساميات الذين استعرضوه وترجموه حسبما تراءى لهم

ان كلمة ( تي ) من استعمال قبيلة طيّ وهي ضمير الإشارة القريب للمؤنث , و(نفس ) بمعنى ( قبر ) في اللغة النبطية , و ( امرؤ القيس لا حاجة لنا ببحث من هو لأنه خارج عن نطاق موضوعنا ) , و( بر ) كلمة آرامية بمعنى ( ابن ) و ( ذو ) بمعنى ( الذي ) في لهجة طيء , و ( أسر تاج ) هي المعنى الدقيق للعبارة الآرامية اُسَر ةُجِا أي ربط التاج أو عقد له التاج

وقد خالفنا العلماء بخمس نقاط من هذه القراءة , واليك تعليل ذلك نقطة فنقطة

أولاً – ان الكلمة التي قبل الأخيرة من السطر الثاني في النقش ( عكدي ) أثبتها الدكتور ولفنسون كما يلي :

" وهزم مذحج بقوته " , تبعاً لما قرأها الأستاذ ليدزبارسكي , وأثبتها الأستاذ م . رودنسون ( تماماً ) , وقد أورد الأسـتاذ المشـار اليه رأي جوزيف هالفي بأن لا تُقرأ ( عكدى ) بل ( كعدى ) مقابلة لكلمة الترجوم العبراني التي معناها حتى الآن ( عد كدون ) . الا أنه نبذ هذا الرأي وقرأها تبعاً للأستاذ بارسكي ( عكري ) في النص في محل ( عكاري ) وهي - عنده - كلمة على وزن ( فعال ) من الأسماء المستعملة في معنى " الحال " . وهكذا تكون – بحسب رأيه الأخير –" عكار " تعادل " عكراً " أي أصلاً.

اما نحن فنخالف الأستاذين ليدرباسكي وولفنسون بكـونها بمعنى " القوة " . وكذلك نخالف “ هالفي " بكونها مستمدة من الكلمة الترجومية " كعدي " ( حتى الآن ) ونوافق الأستاذ رودنسون بقراءتها " عكري " . ولكننا نخالفه بكون معناها ( أصلاً أو تماماً ) . ولدينا كلمة سرياني هي ( عكر ) بمعنى حجر , منع , عطل , صد , عاق الخ . وما عدا ذلك نجد تقارباً شـديداً بين ( الراء والدال ) في النبطية , فيمكن ان تقرأ هذه الكلمة ( عكدي أو عكري ) وهو الأصح

ثانياً – هناك ( بزجي أو بزجاي ) , لقد ألحق بها اللأستاذ ولفنسون الكلمة الأخيرة من السطر الثاني وأثبتها هكذا : ( وجاء الى بزجي أو زجي ) , بينما قال الأستاذ م . رودنسون ان كلمة ( بزجي ) ليست قراءتها مؤكدة , الا أنه يأخذ برأي دوسو الذي يقرأها ( بزجاي ) أي ( بتوفيق ) , الا أننا لم نرتح لما أورداه , ولدينا كلمة سريانية هي ( اَفنجو ) ومعناها ( فرد . فرق . شتت ) فاذا جعلنا مطلع هذا السطر على النحو الذي أثبتناه أي ( شتت ) , ( نجران الخ ) يستقيم المعنى , أو اذا أردنا ان نقول غير ذلك لدينا كلمتان سريانيتان يمكن تــركيب كلمة منهما ويستقيم المعنى أيضاً وهما كلمة ( بز ) بمعنى نهب , سلب ( ذل ) , وكلمة ( جاي ) بمعنى ( تعجرف , تكبر) ، فنستطيع ان نقول ايضاً ( أذل عجرفة نجران الخ ) .

ونصر على رأينا بقراءتها ( شتت ) لأن الكلمة السريانية مطابقة للمعنى . ولأن الأستاذ رودنسون يؤكد ان قراءتها السابقة ليست مؤكدة بعد

ثالثاً – في السطر نفسه نجد كلمة ( حبج ) , وقد أثبتها الأستاذ ولفنسون ( في حبج نجران ) , بينما قرأها الأستاذ رودنسون ( حبج ) بمعنى ( حاصر ) استناداً على ما ورد في شرح المحيط الذي يفسرها ( دنا . اكتنف سـار شديداً . حبق ) ( في محاصرة نجران ) . اما نحن فنخالف الدكتور ولفنسـون ونوافق الأسـتاذ رودنسون على كونها ( حاصر ) , ونزيد على ذلك كلمة سريانية بمعناها , وهي ( حبَط ) أي ( صرع . أسقط . جندل ) , اذ يمكن ان تقرأ هكذا أيضاً لتقارب صورتي ( الجيم ) و ( الطاء ) في الأبجدية النبطية .

في السطر الرابع نجد جملة هي ( وكلهي فرسو لروم ) أثبتها الأسـتاذ ولفنسون بقوله : ( ووكله الفرس والروم ) , بينما قرأها الأستاذ رودنسون ( ونظمهم فوارس للروم ) . ونجد اختلافاً بين القراءتين . فالأولى تجعل ( امرأ القيس ) ( وكله الفرس والروم ) فعلى ماذا وكله ؟ لا ندري . وفي الثانية نجد ( امرأ القيس ) ينظم بنيه (فوارس للروم) . ولا يستبعد ان تكون علاقة لهذه القبائل العربية بالفرس أو الروم , أو ان يجعلها احد الجانبين حليفة له ضد الجانب الثاني , الا أن مما قيل عنه في الجملة التالية ( فلم يبلغ ملك مبلغه ) لا يظنه يجعل بنيه ( فوارس ) للروم أو لغيرهم , وقد تخبط علماء الساميات في قراءة هذه الجملة , واورد الأستاذ رودنسون آراءهم فقال : ان بيدو ومارتين وهارتيمان , وكليرمون غامو , وتبعهم دوسو أحياناً ذهبوا الى ان ( فرسو) تعني الفرس , وعلل بيزر ذلك بقوله " لأن الفرس كانوا قد خذلوا القبائل العربية أمام الرومان " . وترجم كليرمون غانو ذلك بقوله : " وانتدبهم لدى الفرس والرومانيين" ويفترض الرأي الثاني أن هذا الأمير العربي كان يمثل دوراً مستقلاً على وجه المعادلة بين الفرس والروم , ولكن " ليدزر بارسكي " رفض الرأي القائل بأن ( فرسو ) تعني الفرس , بل رأي ان كلمة ( فرسو ) تعني ( الفوارس ) جمع فارس , واعتنق دوسو هذا الرأي أولاً , وترجم الأثنان هذه الجملة بما ترجمها الأستاذ رودنسون

ونحن نخالفهم جميعاً لسببين

الأول

لأنهم اختلفوا جميعاً ولم تكن آراؤهم الاّ من قبيل الحدس والتخمين ولا يمكن بناء حقيقة لغوية وتأريخية على الحدس والتخمين

والثاني

لا نرى موجباً في هذه الحادثة يحمل أمـرؤ القيس أمير العرب على ان يجعل " بنيه " فوارس " لـ " الروم " او لـ " للفرس " ولا سيما ان الأستاذ رودنسون درس امكان انحياز امرؤ القيس هذا الى جانب الروم والفرس , وخرج بنتائج مبهمة متناقضة رغم تحرياتها الكثيرة , ولذلك نضطر الى سبر غور هذه الجملة ( فرسو لروم ) في اللغة السريانية فنقول

يحتمل التصور ان تكون كلمة " فرسو " مستمدة من كلمة ( الفارس ) العربية أو من كلمة ( فُرشُا ) السريانية , الا ان ( فَرسا ) فرسو في حالتها الحاضرة بعيدة عن هذا المعنى بالنسبة الى صيغتها الفعلية ، لأنها أي ( فرسـو ) ( فرسو ) فعل ماض لجمع الغائب ومعناها بالضبط ( بسطوا , نشروا , أو مدّوا , انتشروا , سموا )

وأما الكلمة الثانية من الجملة فهي ( لروم لروم ) ومعناها العلي والمعالي وما الى ذلك, وتكون القراءة الصحيحة لهذه الجملة " فسموا الى العلي أو المعالي " , ولا سيما انها اردفت بالجملة العربية الفصيحة وهي " فلم يبلغ ملك مبلغه " . ونستطيع هنا الخروج بالنتيجة الأخيرة وهي ان هذه الجملة جملة آرامية توضح سمو الانتصار الذي أحرزه ( امرؤ القيس ) لقبيلته وبنيه , وهي عندنا أصح من كل المعاني التي اضفاها عليها علماء الساميات لجهلهم روح اللغة الآرامية , وترجمة الفاظها بدقة

خامساً - بقيت الكلمة الاولى من السطر الخامس من هذا الرقيم الهام وهي ( عكدي ) , وقد اثبتها الأستاذ رودنسون “ قط وهلك “ ونحن نخالفهما في ذلك ونقول ان الكلمة هي " عكري " لا " عكدي " كالكلمة السابقة " عكري " ولكن يختلف معناها بالآرامية عن الاولى ، فعلمنا ان تلك معناها " منع , عطل " اما هذه فهي مستمدة من كلمة ( عكرا عكرا ) ومعناها " ذرية , سلالة , قبيلة " منها . ونحن نميل الى اعطائها أحد هذه المعاني وتكون قراءة الجملة كما اثبتناها : " وذرية أو قبيلة , وهلك سنة ... " وهي معطوفة على الجملة السابقة : ( فلم يبلغ ملك مبلغه وذريته أو مبلغ ذريته وقبيلته )

تبلغ هذه الكتابة زهاء 48 كلمة تتخللها احدى عشر كلمة آرامية وهي من الجمل البليغة بالآرامية كجملة ( أسر التاج قطر ةجا ) و ( فر " لروم " سمو الى العلى ) وغير ذلك من دقائق الآرامية ، وما عدا ذلك فان وضع كثير من الكلمات يشبه الوضع الآرامي الغربي ، أي بالامالة الى الضمة الأخيرة كقوله : " نزاروا , معدو , كلهن - كلؤون اي كلهم , “ فرسو " , وهنا يجب ان نعلن ان في هذا الرقيم تجمعت مادة من اللغتين الشقيقتين وهو ما يؤيد تعاونهما وسيرهما جنباً الى جنب في مختلف عصور التاريخ

واذا تقدّمنا نحو الجنوب , نجد هناك مدينة كاملة آرامية وعربية هي مدينة الأنباط التي ظهرت في شبه جزيرة طور سيناء على أنقاض المملكة الآدومية , وكانت عاصمتها ( سلع ) وهذه كلمة آرامية وعبرية معناها الصخرة الناتئة . وسمّاها اليونان بتراPetra كما عرفها العرب بـ ( البطراء ) أخذاً عن الكلمة اليونانية , وتوسعت مملكة الانباط ( او النبط او النبيط ) فانحدرت الى بلاد الحجاز من جهة , ثم صعدت شمالاً حتى بلغت صحراء سورية وشملت دمشق ووصلت الى أطراف نهر الفرات
اسست هذه المملكة بين القرنين الرابع والخامس ق. م وقرضها الرومان سنة 106 م ولعبت أدواراً هامة في تاريخ الشرق العربي ........ يتبع في الجزء الثاني
ابوكابي م
صورة العضو الرمزية
ابن السريان
مدير الموقع
مدير الموقع
مشاركات: 4439
اشترك في: الخميس إبريل 23, 2009 4:36 pm

Re: مميزات تطور اللغتين العربية والآرامية-الجزء الأول

مشاركة غير مقروءة بواسطة ابن السريان »

سلام الرب معك
أخي الحبيب أبو كابي
سلمت يمناك على ما تنقله لنا من درر
أنك بهذه المقالات تنير عقولنا وفكرنا
أتحفنا بالمزيد لتروي عطش السنين
يكفينا فخراً ما قاله المثلث الرحمات المطران بولص بهنام صلواته معنا


أما سبب نشوء اللهجات الكثيرة لهذه اللغة . فهو سعة انتشارها , وكثرة الشعوب التي امتزج بها أهلها , فقد شملت بلاد الشام والجزيرة العليا والعراق الى حدود بلاد فارس شرقاً , والى بلاد الارمن واليونان وآسيا الصغرى شمالاً ، وحدود بلاد العرب جنوباً . ولم يكن من الممكن حفظ هذه اللغة من التشعب الى لهجات شتى بحسب قابلية كل شعب من الشعوب المختلفة المتكلمة بها , لذلك نرى فروقاً عظيمة بين لهجاتها حتى لا يكاد المتكلم بلهجة نينوى مثلاً ان يفهم المتكلم بلهجة الشام , ولا هذان يستطيعان ان يفهما المتكلم بلسان فلسطين مما أثبته علماء هذه اللغة

دمتم بألف خير
أخوكم: أبن السريان

موقع نسور السريان
أضف رد جديد

العودة إلى ”مواضيع تاريخية“