البعد الانساني في الحضارة السورية اختراع الكتابة - ج 1

المشرفون: ابو كابي م،مشرف

صورة العضو الرمزية
ابو كابي م
مشرف
مشرف
مشاركات: 2136
اشترك في: الثلاثاء يناير 26, 2010 10:00 pm

البعد الانساني في الحضارة السورية اختراع الكتابة - ج 1

مشاركة غير مقروءة بواسطة ابو كابي م »


البعد الانساني في الحضارة السورية
اختراع الكتابة - الجزء الأول
د.بشار خليف

شكلّ اختراع الكتابة ومن ثم ابتكار الأبجدية في المشرق العربي منعطفاً مفصلياً مهماً لجهة تعميق الوعي الإنساني في المستوى العالمي،

اختراع الكتابة:
شكلّ اختراع الكتابة ومن ثم ابتكار الأبجدية في المشرق العربي منعطفاً مفصلياً مهماً لجهة تعميق الوعي الإنساني في المستوى العالمي، ونظراً لدراستنا لهذا الموضوع في متن هذا الكتاب /راجع الدراسة الثانية/ فسوف نناقش هنا فقط البعد الإنساني لهذا المنجز الهام.
فعلى قبر زينون الرواقي الكنعاني ثمة نقش يقول: ألم يأتي قدموس من فينيقيا ومنح اليونان كتبها وعلّمها فن الكتابة؟.
فأن يتم اختراع الكتابة المسماربة في المشرق العربي، وأن يصل هذا المشرق لابتكار الأبجدية /التي أصبحت عالمية/ فهذا مفهوم، ولكن ممكنات النفسية المشرقية الرسولية حتمّت أن يتكفل أبناء هذا المشرق بنقل منجزهم إلى العالم ابتداءً من اليونان، فهاهو قدموس يتوجه إلى اليونان ويؤسس هناك مدينة طيبة ثم يعلّمهم الأبجدية المشرقية التي سوف تنتقل تباعاً إلى مجتمعات العالم القديم.

يقول فيليب حتي في معرض مناقشته لهذا الأمر: لقد انتقل حرف الهجاء /الكنعاني/ شرقاً إلى الآراميين الذين نقلوه إلى الفرس حيث أصبحت الآرامية لغة رسمية عندهم ومن ثم فقد أخذه العرب ليكتبوا به لغة القرآن.. وبعد ذلك انتقل إلى شعوب آسيوية أخرى.. وقد حصل الفرس والأرمن والهنود على أبجديتهم من مصادر آرامية، وحروف البهلوية والسنسكريتية هي من أصل آرامي، وقد حمل الكهنة البوذيون من الهند، الأبجدية والسنسكريتية إلى قلب الصين وكوريا. وهكذا وصلت الحروف الكنعانية شرقاً بطريق الآرامية إلى الشرق الأقصى وغرباً بطريق اليونانية إلى الأمريكيتين، مطوقة العالم كله. (16)

لقد شكلّ ابتكار الكتابة ومن ثم الأبجدية منجزاً حضارياً إنسانياً سوف تتولد عنه وباستمرار منجزات حضارية على الصعيد العالمي وليس أدلّ على ذلك من المعلوماتية التي تدين بنشوئها إلى منجز المشرق العربي الكتابي والأبجدي.

وعلى هذا يؤكد العالم جاليلو جاليكي:
في الأبجدية الكنعانية تحقق تصور لطريقة يمكن بها تأكيد التواصل الفكري بين البشر مهما تباعد المكان وعبر كل زمان، وهي طريقة تصلح للتحدث إلى الذين لم يولدوا بعد والى من سيولدون بعد ألف أو آلاف السنين. (17)

العلوم الرياضية والفلك والـموسيقا:
يعنينا قبل الخوض في مجال هذا المنجز أن نؤكد على أن مطلق منجز حضاري مشرقي لم يكن الاّ انعكاساً للتفاعل المادي الروحي على مدى التاريخ المشرقي، لهذا فالبعد الأخلاقي للمنجز الحضاري شكلّ بعداً إنسانياً. وهذا ماجعل الحضارة المشرقية العربية ضرورة إنسانية.

ولو عدنا إلى حوالي 1800 سنة قبل الميلاد، فلسوف يكون بين أيدينا رقيم طيني يحوي مسألة رياضية تدلّ بشكل أكيد على جذور نظرية تالس /طاليس/ التي تؤرخ بحوالي 600 ق. م.
يؤكد العالم فريدريك بيلانشون «أن الرياضيات كانت في بابل (1800 ـــ 1500) ق. م ولاسيما في زمن الملك (الأموري) حمورابي، فقد عثر في الألواح الطينية على أدلة تؤكد وجود أسس رياضية في الهندسة وحساب الكميات وحل مسائل من الدرجة الثانية، وحساب الجذر التربيعي». (18)

ويحدد هذا الباحث مميزات الريلضيات المشرقية بما يلي:
التجريد: الذي يعبّر عن تقدم في المعارف الرياضية.
حدة ذكاء جبري: حيث استطاع المشرقيون أن يحصلوا بالتحليل الصحيح لأشكال هندسية خاطئة على نتائج صحيحة وعلمية.
ويصل الباحث للقول: لقد دلت الآثار الرياضية البابلية على ثقافة حسابية كونتها علامات متقطعة جاءت من الحساب الرقمي وقياس المساحات والأحجام وعلم الفلك، وبالتالي كان لابد لليونان من ان يأخذوا هذه المعلومات وينسقونها يشكل جذري يربط بينها المنطق والعقل، وكان ذلك في عام 600 ق. م حيث أسس تالس أول عملية استنتاجية. (19)
وهنا نجد أنفسنا أمام اعادة قراءة لهذا المنجز وفق البعد الشمولي للحضارة السورية، وليس كما بدا للباحث بيلانشون. فالتداخل ضمن المشرق العربي /عبر تاريخه/، الاجتماعي ـــ الاقتصادي ـــ الروحي، ووحدة الحياة التي أكدتها الكشوفات الأثارية، تجعلنا نقرأ هذا المنجز ضمن اطاره المجتمعي التاريخي، فلا يمكن أن ننظر إليه ضمن الحيّز الذي وضعه فيه بيلانشون، فهو ليس منجز حصل في جزيرة منعزلة اسمها بابل، وبالتالي فثمة سلسلة تاريخية اجتماعية تحكم ظهور وإبداع هذا المنجز، عنيت في ذلك التفاعل الديمغرافي الاجتماعي الحاصل في مسار التاريخ بين الأكاديين والسومريين والعموريين والبابليين والآشوريين والكنعانيين والآراميين، بحيث أدى إلى ظهور هذا المنجز وغيره من المنجزات.

لهذا فنحن أميل للأخذ بمبدأ الشمول في قراءة مطلق منجز مستندين على الواقع الاجتماعي التاريخي.
أيضاً، هناك مسألة مهمة طرحها الباحث وتتعلق بهوية تالس، فحسب بيلانشون أن تالس اليوناني!، هو الذي ربط المعلومات الرياضية البابلية بالمنطق والعقل وأسس أول عملية استنتاجية. لكن الحقائق العلمية التاريخية تدحض اعتبار تالس يونانياً وتعيده إلى هويته المشرقية الكنعانية، فقد ذكر هيرودوس أن تالس هو سوري، فينيقي، وأكّد ذلك فيثاغورس وأرسطو وأريستوكسان، وتؤكد المعطيات التاريخيةأن طاليس ولد في صيدا وهاجر إلى جزيرة ساموس اليونانية، ثم عاد إلى سورية واتصل بمدرسة موخوس في صور واعتزل في أحد الهياكل الكنعانية في فلسطين ثم هاجر إلى مصر وبابل حيث قضى عشر سنوات. وحين كان في 56 من العمر ذهب إلى ساموس وأسس مدرسته هناك. (20)

على كل هذا يمكننا فهم منجزنا الرياضي وفهم كيفية نقله إلى بعده الإنساني دونما تعصب ولكن بعصبية وعلمية، وعلى هذا يقول بيلانشون: «اننا مدينون للبابليين، هؤلاء المفكرون العظام الذين ساهموا في وضع أساسات العلم الرياضي في الحضارة الإنسانية». (21)
أما ول ديورانت فيشير إلى بابل في الألف الأول ق. م /وهي استمرارية لبابل في الألف الثاني ق. م/ بالقول: «من بابل جاء اليونان الجوالون إلى مدنهم بالقواعد الأساسية لعلوم الرياضيات والفلك والطب والنحو وفقه اللغة وعلم الآثار والتاريخ والفلسفة، ومن المدن اليونانية انتقلت هذه العلوم إلى روما ومنها إلى الأوروبيين والأمريكيين، وليست الأسماء التي وضعها اليونان للمعادن وأبراج النجوم والموازين والمقاييس والآلات الموسيقية والكثير من العقاقير، ليست هذه كلها إلا تراجم لأسمائها البابلية، بل إنها في بعض الأحيان لا تعدو أن تكون بديلاً لحروفها من الأحرف البابلية إلى اليونانية».

ويعقّب: «لقد انتقلت حضارة أرض النهرين من مهدها وأضحت عنصراً من التراث الثقافي للجنس البشري». (22)
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الرياضيات خرجت من معطف التجارة والنشاط التجاري، لا بل أن علم الفلك انبثق من تحالف الرياضيات مع المعتقدات الماورائية.
يشير د. حربي عطيتو في مؤلفه «ملامح الفكر الفلسفي والديني في مدرسة الاسكندرية القديمة» إلى تقدم المشرقيين في الرياضيات، حيث يتحدث عن «تقدم علم الهندسة عندهم، هذا التقدم الكبير لدرجة أنه كان بمقدورهم أن يقدروا المساحات المعقدة ومساحات الأشكال غير المنتظمة، وأدركوا أن الزاوية المرسومة في نصف الدائرة هي زاوية قائمة».
أ
ما عن مدى البعد الإنساني لهذا المنجز فيؤكد على «أن هذه العلوم المشرقية انتقلت إلى اليونان، ونلمس براعة المشرقيين في الجبر عند أرخميدس (القرن الثالث ق. م) وهيرون (القرون الأولى الميلادية) وديوفنتوس في منتصف القرن الثالث الميلادي». (23)

ويؤكد العالم البريطاني غوردون تشايلد أن «أسس علم الرياضيات وضعت في بلاد حوض النهرين، وأكثر الرياضيات الحديثة تطورت عن تلك الأصول عن طريق الرياضيات الهلنستية والعربية».

وهو ما يؤكده العالم هنري فان لون من أن معرفتنا العصرية بالفلك والرياضيات تقوم على مبادئ وضعها البابليون.
ويوضح فيليب حتي ماحققه المشرقيون في مجال الرياضيات بقوله: أصبح العدد60 وهو مركب العشرة، والعدد اثنا عشر وهو أحد الأرقام التي ينقسم عليها عدد60، أساسين لنظامين حسابيين يعرف الأول بالنظام الستيني والثاني بالنظام الاثني عشري. ولا يزال النظام الستيني مستعملاً في تقسيم الساعة والدقيقة، وكذلك مركب الستين الذي استعمل في تقسيم الدائرة الـــ360 درجة. أما لجهة تواصلية هذا المنجز إنسانياً فيؤكد حتَّى انتقاله إلى العالم: «فالرياضيات عند الشعوب الإسلامية والهندية كانت متصلة الحلقات بالرياضيات في المشرق القديم عبر الكتابات الآرامية والإغريقية». (24)

ونحن نعلم أن فاعلية الآراميين الحضارية والتاريخية في الألف الأول قبل الميلاد استمدت أساساتها من الثقافات التي سبقتها من كنعانية وأكادية وغيرها.
أما في مجال فكرة الزمن وعلم الفلك: فقد قدر المشرقيون الزمن بالساعة المائية والمزولة، وقسموا الشهر إلى أربعة أسابيع كما قسموا أوجه الساعة إلى اثني عشر ساعة والساعة إلى ستين دقيقة والدقيقة إلى ستين ثانية، وكل هذا اتبع في كافة أوجه المعمورة إلى يومنا هذا.

يقول جورج كونتنو: نحن مدينون للشرق القديم بذلك العون الضخم والجبار الذي أمدنا به في كل ما يتعلق بالطب وعلم الفلك والرياضيات. (25)

الجدير ذكره أن المشرقيين قسّموا الزمن إلى سنين، وقسّموا السنة إلى 12 شهراً، وكل أسبوع إلى سبعة أيام.
ويورد حتّي أن السوريين نقلوا إلى اليونان تقسيم الزمن والساعات الشمسية.. ونظاماً للتنبؤ بالكسوف والخسوف، وأن علامات الأبراج الإثني عشر الموجودة لدينا الآن هي تقريباً العلامات الآشورية نفسها بالإضافة إلى أنظمة الموازين والمقاييس. (26)

ويتفق الباحثون على أن علم الفلك في المشرق العربي كان المصدر الرئيس الذي استقت منه أوروبا فيما بعد. (27)
ولم تكن آلية نقل المنجز في خطوطه العامة، الاّ على يد المشرقيين في الجناح الغربي للمشرق العربي ولاسيما الكنعانيين(28)، وعلى هذا يقول ول ديورانت: «نقل الكنعانيون العلوم والفنون من المشرق القديم ونشروها في اليونان وأفريقيا وإيطالي واسبانيا، وربطوا الشرق بالغرب بشبكة من الروابط التجارية والثقافية وشرعوا ينتشلون أوربا من براثن الهمجية» (29).

وهذا المنجز المشرقي في علم الفلك ولا سيما في علم الأرصاد البابلية استفاد منه العالم عبر نقله، فهذا العالم هبارفوس الفلكي والذي يعتبر واضع علم الفلك الحديث قد استفاد من الأرصاد البابلية التي اعتمد عليها والذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد... ثم بطليموس الذي عاش في الإسكندرية في القرن الثاني الميلادي والذي ظل نظاماه الجغرافي والفلكي مستعملان حتى القرن السادس عشر الميلادي، ومعلوم مبلغ اعتماده على علوم الفلك المشرقية واستفادته منها.

ولا بأس هنا أن نذكر أنه اكتشف في موقع مدينة نيبور لوحاً فخارياً يعود إلى حوالي 1500 ق. م مرسوم عليه مخطط لمدينة نيبور، يبين أهم معالم المدينة ويعتبر هذا اللوح وهذه الخريطة من أقدم الخرائط أو مخططات المدن في تاريخ البشرية.... وهذا ما أكده العالم الروسي غولايف. (30)

والجدير ذكره هنا هو أن التجارة ولا سيما البحرية فرضت إشراطاتها الإبداعية كما فرضت الرياضيات، وهذا ما جعل الكنعانيين يكتشفون نجم القطب الشمالي الذي أدى إلى نشاط التجارة البحرية الليلية وهذا ما دفع الإغريق لإطلاق تسمية «نجم الفينيقيين» على نجم القطب الشمالي.

ومن جهة أخرى فإن تقسيم الأسبوع إلى سبعة أيام عند المشرقيين القدماء كان يتبع ذهنيتهم الروحية وكان اعتقادهم أن ثمة إلهاً يقترن بكل نجم من النجوم السيارة السبعة (الشمس، القمر، المريخ عطارد، المشتري، الزهرة، زحل) وقرنـــوا أيام الأسبوع بهذه الآلهة فصار هناك يوم لإله الشمس «SUN DAY» ويوم لإله القمر «MOON DAY» ويوم لإله زحل «SATURDAY».
وهذا ما استمر حتى يومنا هذا في أسماء الأيام أو بعضها.

واعتماداً على هذا كله صار بإمكاننا أن نتفهم مقولة العالم الفرنسي جورج كونتنو من أن «مدنية الغرب مدينة للشرق القديم بالكثير الكثير»(31)، ومقولة الباحث روبيرت لاندا أن «الثقافة الكنعانية في شبه الجزيرة الايبرية (الإسبانية) لعبت دوراً عظيماً، فقد عاشت منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد وحتى القرن الأول ومثلت طرازاً مميزاً للحضارة التي انتقلت إلى الأراضي الواقعة إلى الجنوب من جبال البيرينيه» (32).

الموسيقا المشرقية:
إذا كان تأريخ أقدم رقيم موسيقي مشرقي يعود إلى حوالي 1800 ق.م عبر الفاعلية الأكادية فإن هذا المنجز كي يصل إلى التدوين على الرقيم لا بد أنه قد سبقته تفاعلات ومخاضات أدت إلى تدوينه وربما تعود هذه التفاعلات لألفي سنة سابقة.

ونحن نعتقد أنه مع نشوء المعبد والذهنية المعتقدية كان ثمة نشاط موسيقي مرافق، ومع الألف الثالث قبل الميلاد ونتيجة لانفصال المعبد عن المدينة ونشوء السلطة الزمنية بدأت الموسيقا المعتقدية تأخذ حيزها المعبدي في مقابل ظهور موسيقا مدنية تترافق مع نشاطات وفاعليات الحياة العامة اليومية.

وهذا ما أدى إلى تبلور المعطى الموسيقي الحضاري في تدوينه على الرقم سواء في 1800 ق. م أو بعد ذلك بحوالي 400 عام في أوغاريت.

يقول الباحث راؤول فيتالي: «عثر في جنوب العراق على عدة لوحات تعطي الكثير من المعلومات عن الموسيقا الأكادية.. وأن لوحة /رقيم أوغاريت ليست إلا تطبيقاً لهذه المعلومات./» (33)
وقد توصل هذا الباحث إلى أن الموسيقا الأكادية تشبه موسيقانا كما تشبهها الموسيقا الإغريقية.
وقد عثر في أوغاريت على ألواح طينية تحوي قطعاً موسيقية تعود إلى حوالي 1400 ق. م وتبين نتيجة الدراسة أن هذه الألواح هي الأساس في علم الموسيقا الغربي الذي أقامه فيثاغورس عام 500 ق. م.
وقد أثبتت العالمة كيلمر أن موسيقا أوغاريت التي تقوم على السلم السباعي الدياتوني هي أساس الموسيقا الغربية. (34)
ويصل الباحث فيتالي إلى أن سلم فيثاغورس الإغريقي وسلم صفي الدين العربي ما هما إلا عبارة عن خلف للسلم الموسيقي الأكادي. (35)

وقد أمدتنا اللقى الأثرية والمدونات بمعلومات عن آلات موسيقية كانت تستعمل في المشرق العربي القديم مثل الناي والقانون ومزامير القرب والطبول وقرون ومزامير وأبواب وصنوج.
وتخبرنا الرقم من عدة مواقع مشرقية عن وجود فرق موسيقية وانتقالها بين مدن المشرق العربي وعن وجود مغنيين يعزفون ويغنون في الهياكل والقصور والبيوت.
الجدير ذكره هنا أن خط التواصل الإنساني والذي مارسه الكنعانيون ومن ثم الآراميون والسريان أدى إلى تطور الموسيقا مع العصور وانتقالها إلى المجال الحيوي المتوسطي الأوربي.

ويشير المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي إلى أن الأسلوب البيزنطي في الموسيقا والشعر الابتهالي الذي أصبح الملك المشترك لجميع الشعوب الشرقية الأرثوذكسية وضعه سوري مسيحي (خلقدوني) هو رومانس (480 ـــ 550) م وقد كتب رومانس أشعاره بالكويني الاتيكية القديمة لكن تفاعيله وأناشيده كانت سوريّة، ويشير توينبي إلى أن هذه الخطوة بالنسبة إلى الموسيقا والشعر اليونايين كانت منطلقاً جديداً منعشاً (36).

المنجز الحضاري الإنساني المشرقي في العصر الهلنستي 333 ـــ 69 ق. م:

مع تأسيس سلوقس نيكاتور للدولة السلوقية في المشرق العربي، أصبحنا أمام حالة من التمازج الإنساني والفكري بين عالم المشرق العربي وعالم المتوسط ولا سيما الغرب اليوناني.

ويؤكد فيليب حتي أن سورية كانت العمود الفقري للامبراطورية السلوقية فأنطاكية كانت رأسها السياسي أما مدينة سلوقية فكانت عاصمتها التجارية في حين كانت أفاميا مقرها الحربي (37).

وفي هذا العصر نحن أمام ظاهرة أصيلة في مجتمعنا، فالمعلوم أن السلوقيين أسسوا مدناً في سورية لم تكن من قبل أو ربما كانت بلدات صغيرة جرى تأسيسها من جديد وفق المنظور السلوقي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وعلى هذا تم تشييد مدن مثل اللاذقية (لاوديكية) وأنطاكية وأفاميا /أباميا/. وهذه المدن حافظت على أسمائها بعد زوال الحكم اليوناني مع تحريفها باللفظ العربي.

ولكن اليونان كانوا قد أجروا تبديلاً على أسماء المدن السورية الأصلية وأطلقوا عليها تسميات يونانية حيث أنه وبزوال الاحتلال اليوناني عادت المدن إلى أسمائها الحقيقية والأصلية، فعكّا مثلاً أصبحت بتوليماس، وعمّان فيلادلفيا وبيسان سكثيوبوليس وبيروت لاوديسه وحماه أبيغانيه. (38)

الرواقية: منجز فلسفي إنساني للمشرق العربي:

إذا كنا نوافق على أن كل مذهب فلسفي هو ابن عصره، فإن المذهب الرواقي يشكل بامتياز ابناً شرعياً للعصر الهلنستي ومن ثم الروماني وصولاً إلى المسيحية.

وقد حمل هذا المذهب بعداً إنسانياً ورؤيا إنسانية يستظل بها جميع البشر وأساسها التسامح والعدالة. وقد أسس هذا المذهب زينون الرواقي الكنعاني (333 ـــ 261) ق. م وهو من مواليد مدينة كيتوم في قبرص.

ويبدو أن العصر الهلنسيتي قد شهد دعوات متمايزة بين تفوق مجتمعات على أخرى، بالإضافة إلى ازدهار العبودية وتجارتها، ما أدى إلى بلبلة فكرية وسياسية واجتماعية أدت إلى تنازع بين المذاهب الفلسفية والاجتماعية. وهذا ما دفع زينون الرواقي /ابن المشرق العربي/ إلى أن يحاول الاسهام في وضع أساسات لفكر إنساني جديد أساسه التسامح والمساواة والعدل. وبذا يكون زينون المعبرّ عن شخصية مجتمعه وخصائصه الإنسانية.

فقد تأسست الفلسفة أو المذهب الرواقي على وحدة الجنس البشري والمساواة بين الناس وعدالة الدولة والمساواة بين الرجال والنساء واحترام حقوق الزوجة والتسامح والإحسان إلى الآخرين، والشعور الإنساني في حالات الضرورة القصوى للمعاقبة. (39)

ولتبيان أهمية هذه الفلسفة /برأينا/ ينبغي دراستها وفق عصرها أولاً وضمن دراسات مقارنة مع ما قبلها وما بعدها من مذاهب وفلسفات.
عام 302 ق. م بدأ زينون يعلم مذهبه في أثينا، وقد أبانت فلسفته عن صلة مباشرة بالروحية المشرقية العربية ولا سيما في نظرتها الشمولية والإنسانية للأخوة البشرية، ويبدو أنّ زينون كان المبشر الأول لظهور المسيحية.
وقد علّم مذهبه باللغة اليونانية /لغة العصر آنذاك/ وكان له أتباع من اليونانيين والرومان. وقد كتب أحد شعراء اليونان على شاهدة قبره:
«إذا كانت بلادك الأصلية هي فينيقية
فهل يجب أن يضيرك هذا بشيء..؟؟
ألم يأت قدموس من هناك
الذي أعطى لليونان كتبها وكتابها؟؟»

وامتد تأثير الفلسفة الرواقية حتى ظهور المسيحية، وقد أشار حتيّ إلى أن أول وسيط بين المسيحية والفلسفة الرواقية، كان بولص الرسول. وأن كثيراً من مضامين رسائله والأسلوب الذي يعبر به عن ذلك المضمون هو تفكير رواقي إلى حد بعيد، ولا سيما رسائله إلى أهل كورنثه ورومية وكولوسي وكورنثوس.(40)

حتى أنه في زمن الإمبراطورية الرومانية شهد عرش روما أباطرة آمنوا بالمذهب الرواقي حيث كان يأخذ بعداً دينياً ولا سيما عند الإمبراطور ماركوس أوريليوس /توفي في 180 م/ حيث كان رواقياً.

ويبدو أنه بداية القرن الثالث الميلادي نجحت المسيحية في التوفيق بين الرواقية وبينها، حسب فيليب حتي. (41)
وما يعنينا في هذا المجال هو أن الفلسفة الرواقية انتمت بقوة إلى الخط الفكري المشرقي العربي، الذي نجد بواكيره في الأساطير المشرقية في العصور التاريخية ثم تالياً في العصور اللاحقة وصولاً إلى المسيحية والتي تؤكد على البعد الإنساني لا بل في نشر القيم الإنسانية عبر الرسل وتلاميذ المسيح إلى العالم.
وكما أسلفنا فإن هذا يعتبر خصيصة من خصائص النفسية المشرقية العربية.

وعلى كل هذا ولطبيعة التواصل بين بواكير الفكر في المشرق عبر الأساطير الأولى وصولاً إلى الرواقية فالمسيحية، فإن هذا يثبت أن المسيح مشرقي وينتمي إلى مجتمعه المشرقي وليس يهودياً كما توحي الدوائر اليهودية الصهيبونية والمتهودة في الغرب المسيحي.

وفي سياق البعد الإنساني المشرقي العربي تنبغي الإشارة إلى الدور المشرقي في ردف وتوسيع قاعدة الرسالة الإسلامية، لا بل إن المؤرخ أرنولد توينبي يتحدث على أنه: «قبل أيام محمد بنحو ألفي سنة أصبحت الجزيرة العربية مما يمكن اجتيازه من مكان إلى آخر. وقد أخذت الآراء والتنظيمات تتغلغل إلى شبه الجزيرة من الهلال الخصيب الذي يحاذيها في الشمال. وهذا التغلغل كان أثره تراكمياً وفي عصر النبي كانت الشحنة الروحية المتراكمة في الجزيرة العربية على وشك الإنفجار. وجاءت رسالة محمد في الوقت المناسب إذ تلقّى هذه الشحنة فأحسن استعمالها وذلك برؤيته النيرة وتصميمه وحكمته» (42).

وبرأينا فإن انتشار الرسالة الإسلامية إلى سورية والمشرق بعامة كان يدخل ضمن الإطار الطبيعي للبعد الإنساني المشرقي لا بل إن دمشق أصبحت عاصمة للإمبراطورية الأموية.

يتبع....
ابوكابي م
أضف رد جديد

العودة إلى ”التارخ والحضارة السريانية“