الموسيقا السريانية الكنيسة (الجزء 11-20)

صورة العضو الرمزية
ابن السريان
مدير الموقع
مدير الموقع
مشاركات: 4439
اشترك في: الخميس إبريل 23, 2009 4:36 pm

الموسيقا السريانية الكنيسة (الجزء 11-20)

مشاركة غير مقروءة بواسطة ابن السريان »


الموسيقا السريانية الكنسية (الجزء الحادي عشر)

الفرق بين النظامين اللحنيين "اوكتوإيكوس" و"إكاديس (2)
في الإنشاد الكنسي (1)
بعد أن وضَّحنا في الجزء العاشر من مقالنا الفرق بين النظامين اللحنيين "اوكتوإيكوس" و"إكاديس" في السلالم الموسيقية من ناحية المقامات والأجناس ونوعيتها، وبعد أن قمنا بالمقارنة التي تبيّن لنا من خلالها القواسم المشتركة بين النظامين والفروقات التي يمتاز بها كل منهما، نتابع في هذا الجزء الفرق بينهما في الإنشاد الكنسي وفي كيفية آداء الألحان، ونبدأ أولاً في الكنيسة السريانية.


الإنشاد الكنسي السرياني (الآداء)
إن للألحان الكنسية أهمية كبرى ودور أساسي لا يُستغنى عنه قط في الكنسية السريانية لما لهذه الألحان من تأثيرات جمّة ومختلفة على المصلين، فبالإضافة لكونها وسيلة تواصل مع الرب وبين المؤمنين، فهي أيضاّ أداة فعّالة لتهذيب الذاكرة وحفظها وعاملة في نفوس المؤمنين.
وتكتسب الألحان هذه الأهمية الكبرى في الكنيسة السريانية من خلال دورها في إستقطاب الشعب الى الصلاة، ومساهمتها سابقاً في منافسة هياكل الوثنية المليئة بالموسيقا، ومن تأثير اللذة المتولدة من سماعها، والإستعانة بها على النشاط في العبادة، وأيضاً من خلال تأثير التعبير اللحني والصوتي اللذين يساعدا المصلي في تَفَهُّم معاني الكلمات الروحية، والمقاصد الإلهية.

ولصوت الإنسان المنفرد أهمية خاصة وكبيرة في اَداء الألحان السريانية لأن الموسيقا الكنسية تعتمد بكليتها على السمع، وعلى تناقلها شفهيا بالإعتماد على الكتب الكنسية التي تحفظ نصوصها.

وأما الطريقة السريانية "طريقة كنيسة السريان الأرثوذوكس" في آداء الألحان قائمة على قواعد وأسس عديدة وميّزات كثيرة، هي أركان رئيسية يُعتَمد عليها في الإنشاد الكنسي، وفي الحفاظ على الألحان الكنسية، وعلى طرق واساليب إنشادها، ومنها:

1- البساطة في التنغيم والأداء
وتسمى بالطريقة البسيطة في التنغيم لكونها:
1- لا تحوي على الفخامة في الآداء
2- لا تحتوي على التطويل في التنغيم
3- لا تحتوي على التعددية في الأصوات.

إنما تعتمد على البساطة والعفوية في الآداء، وليس على التنغيم والتطريب في اللحن، فهذه الطريقة تتحقق بالإنشاد بواسطة إستخدام أنصاف السلالم الموسيقية كما هو الحال في ألحان الكنيسة السريانية المكونة بمعظمها من أنصاف السلالم الموسيقية والتي لا تعتمد كثيراً على السلالم الموسيقية الكاملة مثل سلالم ألحان الكنيسة البيزنطية الكاملة التي لا تُحقِّق الطريقة البسيطة في التنغيم، أو مثل سلالم المقامات الشرقية التي تنتج التطريب للمستمع وتخرجه عن هذه الطريقة البسيطة في التنغيم.

وإني أقترح تسمية الطريقة البسيطة في التنغيم "بالطريقة السريانية في التنغيم". لأن معظم الكنائس السريانية ذات الطقس السرياني تتميز بهذه الطريقة، أي بالبساطة والعفوية في التنغيم، رغم ذهاب جوقات بعضها اليوم إلى الطريقة الكورالية الاوروبية الحديثة في آداء الألحان أو إلى الطريقة البيزنطية اللاتينية التي تسمى بالطريقة الغريغورية للإنشاد الكنسي.
والجدير بالذكر أن الكنيسة القبطية تعتمد إعتماداً كلياً على هذه الطريقة في إقامة طقوس صلواتها، لكنها تضيف إليها عنصر مهم جداً هو خاصية التطويل اللحني في كلمة واحدة أو في حرف واحد، وهذا ما يجعلها تتميّز عن بقية الكنائس المشرقية.


2- الطريقة الشعبية في الصلاة
إن الطريقة السريانية البسيطة في الآداء والتنغيم هي الطريقة الشعبية أي طريقة العامة من الناس في آداء ألحان صلوات الكنيسة السريانية. فالكنيسة السريانية تمثل في هذه الحالة "كنيسة الشعب"، وليس "كنيسة الملوك والأمراء والطبقات الحاكمة" كما هي الحالة في الكنيسة البيزنطية التي تعتبر قائمة على فكرة الفخامة والعظمة في كل هيكليتها، أي الطريقة الملوكية في آداء الألحان وإقامة الشعائر الدينية.


3- الهدوء والروحانية في الآداء
إن السريان ترجموا الآداء أثناء إقامة الصلوات على أن يكون بخشوعية وروحانية وهدوء شديد، وبطريقة تعبيرية وعلى أن تكون الطريقة:
1- حزينة وبكائية، وعلى أن تلعب العاطفة والمشاعر والأحاسيس دوراً كبيراً في التنغيم وآداء الألحان.
2- هادئة ورصينة وخشوعية للوصول إلى الروحانية:
- يستبعد الزعيق والصراخ ورفع الأصوات أثناء آداء ألحان الصلوات.
- أن يكون التركيز على النصوص الدينية لفهم معانيها الروحية أثناء القيام بآداء ألحانها، أكثر من التركيز على التطريب الذي يأخذنا إلى عدم التركيز على معاني النصوص وإلى استعمال السلالم الكاملة في التنغيم، التي تأخذنا بدورها إلى طريقة غناء المقامات الغير كنسية والتي تعتمد إعتماداً كلياً على التطريب، فنخرج بذلك عن الطريقة السريانية البسيطة في التنغيم الأصيلة.


4- المسكنة والتذلل في الآداء
يتم التنغيم بطريقة تحوي الكثير من التذلّل وإنكسار النفس وإنسحاق القلب وتواضع كبير، وألّا يتحول الآداء لصراخ وزعيق، فَتُرفَع أصواتنا أمام حضرة الله وعظمته ونصرخ بحضوره ووجهه كما يقال، وهو مخالف تماماً لمعاني النصوص الدينية، لأنه يُعبّر عن الكبرياء المخالف لتعاليم السيد المسيح ولأمثلته الحيّة التي ضربها لنا عن التواضع وأراد أن نتقيّد بها، لأن الكبرياء سيبعدنا عن ملكوته السماوي الأزلي، وسيبعد حضوره عنّا.
ومن ميًزات هذه الطريقة: الإنشاد بتواضع وبقلب منسحق ومكسور، وبتذلل ومسكنة وندامة، وببكاء وحزن عميق، ولجاجة في الصلوات والطلبات.

لقد ورد في موضع واحد في القداس الإلهي السرياني قول للكاهن: "لنصرخ ونقول كذا وكذا...." ليرفع الشعب الصلوات والطلبات، وهذا القول مقصود منه هو نوعية التعبير في الطلب من الله بلجاجة وإلحاح وإنكسار نفس وألم، ليدير وجهه إلينا ويسمع أصواتنا وصلواتنا وطلباتنا، وليس المقصود منه الصراخ بأعلى أصواتنا كما يعتقد البعض في حضرته. يبدو بأن هناك خلل في الترجمة إلى العربية من النص الأصلي السرياني، فتحولت الكلمة والطريقة إلى صراخ، لأن هناك قول قديم بالسريانية لأحد آباء الكنيسة تقول ترجمته بتصرف: " مثل ذاك الثور الهائج في البراري الذي يصرخ بألم شديد، هكذا أصرخ وأقول يارب إرحمني وأغفر لي كل خطاياي.

وكما أن ورود مرات قول الكاهن في الصلوات:" وبقلب منسحق (وبصوت يعبر عن إنكسار النفس) نقول إرحمنا يا الله، أو كذا وكذا...."، هي خير دليل على أن يكون آداء ألحاننا الكنسية بمسكنة وتذلل وتواضع.
وها إن ابن العبري يدعم بحثنا هذا في كتابه الإيثيقون حيث يؤكد على كيفية الإنشاد بقوله:
"وجوب الترتيل بخشوع وبكاء، وبتذلل القلب وتأنيب الضمير وبتذكر المعاصي ليرق القلب ويبكي المصلي".

ويقول أيضاً:
"روى أحد النسّاك: رأيت في الحلم أرتل المزامير أمام داؤود فقال لي : أعجب منك كيف تعلمت الترتيل ولم تتعلم البكاء، ألم تسمع أني غمرت في كل ليل فراشي، وبدموعي غسلت دثاري".
وقال مار اسحق الرهاوي والمعروف بالانطاكي (491م): "ناد بالطوبى لمن له استعداد طبيعي للبكاء بدافع إرادي، فقد وجد من طبيعته عضداً لإرادته، ومن كان له مجرد استعداد للبكاء فلا خير فيه، ولا تناد بالطوبى لمن كان فاقد اللب". الإيثيقون ص 129.
والقصد هنا من قول مار اسحق الانطاكي هو غير مقبول البكاء لمجرد البكاء، إنما يذهب المصلي الى حالة البكاء نتيجة لفهمه للمعاني الرهيبة للنصوص الدينية التي تذكره بخطاياه وبأهوال القيامة.

أما لماذا البكاء في الترتيل فهو دليل على التواضع والخشوع والندامة وإنكسار القلب والعدول عن الخطيئة، وعلى التذلّل والتمسكن أمام عظمة الله ليتقبل صلواتنا.
إن القلب والروح وفهم النصوص يتحكموا كثيراً في آداء الألحان السريانية وهذا واضح من الإرتجال الكبير المعبّرعن النص في البكاء والتذلّل وإنسحاق القلب.
وهذا متّفق ومنسَجِم مع الطريقة الشرقية في تفسير الكتاب المقدس، وهي اشتراك العقل والقلب والروح في التفاسير اللاهوتية، وخاصة في قضية ربط العهدين العتيق والجديد ببعضهما.


5- النغمة الخادمة
من خلال درسي لجوهر الألحان السريانية الكنسية تبيّن لي بأن النغمة يجب أن تكون خادمة مطيعة للمعنى وليس العكس، وذلك لسبب إدخال معنى النصوص الدينية المغناة الى ذهن ونفس المصلي، لأن الصلاة هي مناجاة النفس البشرية لله للإتحاد معه ومخاطبته ليستمع الى شكوانا وطلباتنا وألّا يدير وجهه عنّا. ورغم وجود قاعدة في الكنيسة السريانية تقول في تطبيق الألحان على نصوص عديدة متفقة في الأوزان الشعرية، إلا أن الألحان المختارة من نظام الألحان إكاديس يجب أن تكون عادة مناسبة للحدث المعالج ومتفقة مع طبيعة النص، أي التوافق بين طبيعة اللحن وطبيعة النص الشعري.
ولا يجوز تطبيق لحن من مجموعة لحنية ما ܣܶܒܠܬܳܐ "سيبَلثوُ" يحمل في جوهره النغمي وفي نصّه الشعري الحزن والألم، على نص يتناول موضوعه الفرح والبهجة والسرور مثل عيدي الميلاد القيامة.
وهذا يؤكد قولنا أن تكون النغمة خادمة مطيعة للمعنى.

6- إنشاد الصلاة بحكمة
بالإضافة لوجود توصيات من المجامع المحلية والآباء القديسين في أغلب الكنائس لربط المعنى بالنغمة، أي أن تكون الألحان وطريقة إنشادها مناسبة لمعنى النصوص الدينية، ليكون لإتحادهما معنى حقيقي يؤثر على القلب والعقل معاً،
فهناك أيضاً توصيات على أن يكون إنشاد ألحان الصلوات بحكمة وروحانية مليئة بالورع والتقوى ليكون الإهتمام موجهاً لمعاني النصوص الدينية وليس فقط إلى اللذة الموسيقية الحاصلة من تطريب اللألحان.
وقد تحولت هذه التوصيات إلى قانون في الكنيسة البيزنطية الشرقية ينص على أن يكون "اللحن والصلاة بحكمة وليس بلذة". لأن من يهتم باللحن فقط تستهويه نغمته فينطرب وينسيه معاني الكلام الرباني فيخرج بذلك من روحانية الصلاة.

ويتبع في الجزء الثاني عشر


الموسيقا السريانية الكنسية (الجزء الثاني عشر)
الفرق بين النظامين اللحنيين اوكتوإيكوس وإكاديس (3)
في الإنشاد الكنسي (2)
بقلم: نينوس اسعد صوما
ستوكهولم
في هذا الجزء نتابع الفرق بين النظامين اللحنيين اوكتوإيكوس وإكاديس من ناحية الإنشاد الكنسي وسندرس بعض مميّزات الإنشاد في الكنيسة البيزنطية الشرقية لأجل معرفة الفروقات مقارنة مع الإنشاد في الكنيسة السريانية الذي كنا قد درسناه في الجزء السابق من مقالنا، ثم نلقي الضوء على نوعية الأنغام السريانية لأجل المحافظة عليها.
الإنشاد الكنسي البيزنطي الشرقي (الآداء)
يعرّف العلماء الموسيقا البيزنطية بأنها ظاهرة انتروبولوجية "علم الإنسان" عميقة ووسيلة تواصل قد تكون أكثر أساسية من الكلام البشري، وهي أيضاّ أداة فعّالة جدًّا لتهذيب الذاكرة وحفظها. وقد تمّت بلورة أفكارها وتطوير نظامها وتقسيم ألحانها على مناسبات وأعياد وتذكارات السنة خلال العصور والوسطى للمسيحية من قبل أشخاصٍ عباقرة "فلاسفة قدماء ومؤلّفين وموسيقيين ومفكّرين".
وقالوا في أهميتها: الموسيقا أساسيّة لروح الكنيسة البيزنطية، فعندما نرتّل نؤدّي عمل اللاهوت وعمل الصلاة، ونحافظ على ذكرى وحقيقة موت ربنا يسوع المسيح وقيامته الواهبين الحياة.
ولكنيسة الروم (البيزنطية الشرقية) تدوين موسيقي "نوتة موسيقية" خاص بها وقديم جداً وهو معمول به لغاية اليوم، وقد تطور هذا التدوين قليلاً عبر تدرج التاريخ، وهو يتميّز بتعابير وبمصطلحات موسيقية قديمة خاصة به وهي باللغة اليونانية، وهي غير تلك المصطلحات التي ألِفناها في النوتة الحديثة.
وتنقسم هذه الموسيقا من خلال تدوينها الموسيقي إلى جزأين هامين وهما:
الإيصن والميلوس.
- الميلوس يُلبس اللغة العميقة لحنًا تبشيريًّا لإعلان النص والتبشير به.
ويتميز الميلوس بمفاتيحه الموسيقية التي تعبر عن نوعية اللحن ومسيرته وعن درجته الصوتية.
أي هو مفتاح التدوين الموسيقي البيزنطي (النوطة الموسيقية) بعينه كما أكّده لي أحد الآباء الكهنة المختصين في الموسيقيا البيزنطية الشرقية.
- الإيصن هو النوتة الموسيقية (أي العلامة الموسيقية التي تحدد درجة الصوت الموسيقية) التي تضبط اللحن، ويتم إمساكها فيما يرتل المنشد التراتيل، وأغلبها تُمسَك من قرار اللحن.
الإيصن صعب لأنه يتطلّب معرفة وخبرة، وعزيمة إستثنائية ومركّزة من الكورس أو المنشد، ليستطيع الثبوت والركوز بإستمرار على الدرجة الصوتية المطلوبة، أي الثبوت في مكان واحد من ناحية اللحن، بينما يتحرّك المرتّل في السلّم الموسيقي.
غالبًا ما يتمّ إهمال الإيصن لأنّه صعب جدًّا ولأنّ البعض يعتبره غير ضروري. لكنّ الإيصن أساسي لما يحدث في الموسيقا البيزنطية، فهو بمثابة عرش يتموضع فيه اللحن حتى لا يضلّ طريقه ويسقط، وجانب غير قابل للتفاوض عليه في الموسيقا البيزنطية.
لن أسترسل في شروحات ما يتميّز به الإنشاد الديني في الكنيسة البيزنطية الشرقية ولكن سأوضح فقط ثلاث نقاط مهمة لتبيان الفروقات في كيفية الترتيل بينه وبين الإنشاد السرياني.
1- الفخامة في الإنشاد الديني البيزنطي
إن طريقة الإنشاد لألحان الكنيسة البيزنطية قائمة على العظمة والفخامة، والتبجيل الذي يليق (كما يقال) بحضرة ومكانة الآب السماوي العالية، وتحوي هذه الطريقة بحسب رأيي الشخصي الكثير من العظمة المترجمة في الكبرياء التي نراها واضحة في طريقة آداء الألحان من قبل المنشدين والمرتلين وفي جمالية الإيقونات الضخمة المتواجدة في هياكل الكنائس البيزنطية بشكل عام.
وأتصفت الطريقة البيزنطية في الإنشاد خلال التاريخ، بالطريقة الملكية في الصلاة، نسبة لتبني الكنيسة طقوس وتقاليد تحوي الكثير من العظمة والفخامة اللائقة بالملوك والأمراء والنبلاء، خاصة عندما تحولت الكنيسة من اليونانية إلى البيزنطية في القسطنطينية، ولتتغرب بعدها وتصبح أوروبية لاتينية.
لهذا تميّزت الكنيسة البيزنطية عن أخواتها الكنائس المشرقية بأنها تمثل كنيسة الملوك والأمراء والنبلاء وطبقات الشعب الارستوقراطية، حتى أنها استعملت اللغة اليونانية قرون عديدة كلغة أدبية في العظات الكنسية ولمخاطبة الشعب كحالة فوقية منفصلة عن الواقع وعن لغة عامة الناس، حيث كان الأسقف في زياراته الرعوية أثناء عظاته وخطبه الدينية، وقبل تعريب لغة الشعب والكنيسة، يستخدم ترجمان للغة الآرامية التي كانت لغة العامة آنذاك، لهذا وحسب رأيي الشخصي ورأي الكثيرين من النقاد أن الكنيسة البيزنطية ليست كنيسة الشعب والعامة، فتختلف بهذه الجزئية عن الكنيسة السريانية التي تمثل كنيسة الشعب كما بييّنا الأسباب في الجزء السابق من مقالنا، والتي يتميّز إنشادها بالبساطة والعفوية والتواضع المتمثّل بالتذلّل والتمسّكن أمام عظمة الله، وأيضاً بسبب تطابق لغة الشعب والكنيسة في الفترات الأولى لها، إلا أن وقوع إضطهادات وكوارث عديدة لحقت بالكنيسة فحصلت حالة تخلف رهيبة لدى الشعب متمثلة في عدم إتقان العامة للغتها السريانية الآرامية، فدخلت في حالة شبيهة بحالة الكنيسة البيزنطية، وتضطر الى استعمال لغة العامة في العظات والكرازات وبعض الطقوس الأخرى.
2- الدقة في الآداء البيزنطي
إن الألحان البيزنطية وطريقة إنشادها التي لا تقبل الإرتجال في الآداء كثيراً، هي طريقة دقيقة للغاية، لا تقبل التصرف مطلقاً إلا في بعض الحالات والمواضع الخاصة، وكأن اللحن البيزنطي في إستعماله التدوين الموسيقي البيزنطي وتطبيقه لقواعد الإيصن والميلوس، هو نص كتابي يقرأ بشكل واضح وبطريقة واحدة فقط.
لهذا أرى بأن الطريقة البيزنطية في آداء الألحان، هي طريقة دقيقة للغاية من حيث تطبيقها عملياً ورائعة من حيث جمالية سماعها، وساهمت مساهمة فعالة في المحافظة على الألحان الكنسية من الإندثار والضياع والتغيير، وتختلف بذلك عن الطريقة السريانية في الإنشاد التي تعتمد إعتماداً مطلقاً على ذاكرة الكهنة والخدام المنشدين، والتي نتج عن عدم تدوين ألحانها الكنسية وعن عدم وجود طرق أو أساليب لحفظها بشكل جيد من الضياع، تغيّرات كثيرة وفروقات عديدة في إنشادها وآدائها بين الكثير من المدن المختلفة ثقافياً ولغوياً وبين مراكز التعليم وبين القرى المتوزّعة على جغرافية واسعة من البلاد، مما أدّى وبكل أسف إلى ضياع ونسيان العديد من هذه الألحان.
3- الرصانة في الإنشاد البيزنطي
يعود الفضل الكبير في رصانة الآداء إلى العقل البشري الذي يتحكم بطريقة الإنشاد، حيث يلعب هذا العقل دوراً رئيسياً في تنفيذها، ولا وجود دور للقلب كثيراً ولا للمشاعر في التحكم في الإنشاد، إلا في القسم القليل من الألحان القابلة للإرتجال. فَتُعرَّف الموسيقا البيزنطية بأنها موسيقا رصينة ولا تحاكي العواطف لأنها قائمة على القواعد السابقة، ولهذا فإن الطريقة البيزنطية في آداء الألحان تتفق وتتناسب وتنسجم مع طريقة التفسير الغربي للكتاب المقدس العقلانية، التي يتحكم العقل فيها بشكل مباشر وصارم في تفسيرات النصوص المقدسة، وخاصة ما يتعلق في قضية ربط العهد القديم بالعهد الجديد، حيث لا تعطي هذه الطريقة أبعاد تفسيرية أخرى لم تقلها النصوص وتحميلها ما لا تحتمل، كما في التفسير الشرقي الذي تتبعه الكنائس الشرقية الاخرى. فالرصانة في الإنشاد الكنسي البيزنطي هي طريقة تعتمد على العقل وتتوافق مع طريقة التفسير الغربي لنصوص الكتاب المقدس التي تعتمد على التوافق العقلي أيضاً.
أما الطريقة السريانية في الإنشاد الكنسي فتعتمد كثيراً على القلب والروح والمشاعر في أداء الألحان الكنسية، وتتوافق مع الطريقة الشرقية في تفسير الكتاب المقدس، وهي اشتراك العقل والقلب والروح في التفاسير اللاهوتية، وعلى ربط العهدين العتيق والجديد ببعضهما بشكل فاعل في الكنيسة.
المحافظة على نوعية الألحان السريانية
يقول ابن العبري في كتابه "الإثيقون":
تتميز أنغام الكنيسة السريانية "بأنغام روحية هادئة ورصينة وشجية تثير في النفس الخشوع لتربي في النفس الميول الروحية، وتغسلها بالدموع وتطهرها من الشرور والآثام".
لقد حدد العلّامة والفيلسوف السرياني الشهير مار غريغوريوس يوحنا أبن العبري فيما تقدم إطار نوعية الألحان الكنسية السريانية بعد دراسته لها ونقلاً عن آراء الآباء الأجلّاء من الذين سبقوه ومن شروحات الآباء الملحنون للأناشيد الكنسية.
لهذا أرى من واجب الكنيسة السريانية الأرثوذوكسية شعباً وإكليروساً التقيد التام بما قاله فيلسوفنا العلامة أبن العبري للحفاظ على تراث الكنيسة الموسيقي من الضياع والإندثار والتشويه، وللحفاظ على هوية الألحان السريانية الأصيلة من دخول العنصر الموسيقي الغريب عليها.
وعلى كل من يرغب في متابعة مشوار وضع ألحان جديدة للكنيسة السريانية أن يتقيد بطبيعة وصفات الأنغام الموسيقية السريانية، وخصائص ونوعية الألحان الكنسية، وعلى سلالمها وقوالبها الموسيقية، وعلى قواعد طرق آدائها، كما أوردناها في مقالنا، لتأتي ألحاناً سريانية خالصة صحيحة خالية من الشوائب والتأثيرات الخارجية.
ويتبع في الجزء الثالث عشر

الموسيقا السريانية الكنسية
(الجزء الثالث عشر)
Ninos Assad Sauma
الخصائص الموسيقية للألحان الكنسية
(1) وخصائص إنشاد الألحان الكنسية
بقلم: نينوس اسعد صوما
ستوكهولم
الخصائص الموسيقية للألحان الكنسية
قام الموسيقار السرياني القدير "نوري اسكندر" بتنويط الحان الكنيسة السريانية الارثوذكسية كما هي منظمة في الكتاب الكنسي ܒܝܬ ܓܙܐ ܕܩܝܢ̈ܬܐ ܕܥܕܬܐ ܣܘܪܝܝܬܐ (مخزن ألحان الكنيسة السريانية الارثوذكسية)، وكان المطران المثقف (الأسير حالياً) غريغوريوس يوحنا ابراهيم قد قام عام 1992 بطباعة الكتاب المذكور بمجلد ضخم يضم بين دفتيه النص السرياني والنوتة الموسيقية.
كان الموسيقار المذكور نوري اسكندر قد درس الأجناس الموسيقية لألحان الكنيسة السريانية الأرثوذوكسية، واستخرج منها "خصائص الموسيقا السريانية" ويقصد بها "خصائص ألحان الكنيسة السريانية"، والتي أتفق معه حولها، وسأوردها هنا بإختصار كمعرفة عامة ليتعرف عليها القارىء الكريم، قبل أن ندخل في خصائص الإنشاد الديني أي (خصائص غناء الألحان السريانية الكنسية ) التي أستخرجناها بعد دراستنا لكيفية إنشاد اللألحان السريانية الكنسية المعتمدة على خبرتنا المكتسبة من تعاطينا وعزفنا للألحان الكنسية لسنوات طويلة.
خصائص الألحان السريانية الكنسية حسب الموسيقار نوري اسكندر:
1- إن هذه الألحان السريانية هي موسيقا متوارثة ومتناقلة شفهياً.
2- تمتاز بالبساطة والعفوية وهي من نوع السهل الممتنع.
3- سلالمها شرقية تحوي ثلاثة أرباع الصوت.
4- تعتمد على أجناس موسيقية ثلاثية ورباعية وخماسية.
5- لها خاصية في التركيب التسلسلي المتتالي للجمل اللحنية في الصعود والهبوط.
6- العبارات الشعرية لها تراكيب لحنية خاصة بها.
7- هناك اختلافات أو توافقات في الموازين الموسيقية مع الشعرية ومع الأوزان الإيقاعية.
8- إقتصار الألحان غالباً على درجات قليلة في التركيب اللحني.
9- ارتباط القالب اللحني بالشعري.
10- ارتباط الألحان بالروح الاجتماعية.
خصائص إنشاد (غناء) الألحان الكنسية
كما استنتجناها
إن الإنشاد الديني في الكنيسة السريانية الأرثوذوكسية له خصائص ومميّزات معينة يشترك في بعضها مع خصائص إنشاد الكنائس الأخرى الشقيقة ويختلف في بعضها الآخر وخاصة فيما يتعلق بكيفيته أي بكيفية الإنشاد. وهذه بعض الخصائص التي استنجناها:
الإنشاد بدون مرافقات موسيقية A Cappella :
1.1- رغم أن المصطلح الموسيقي A Cappella له قواعده الموسيقية العالمية إلا أن فكرته الأساسية قائمة على عدم استعمال آلات موسيقية.
والموسيقا في الكنيسة السريانية هي موسيقا صوتية بالكلية ولم تستعمل الآلات الموسيقية مرافقة للإنشاد الكنسي، فالغناء أو الإنشاد في الكنيسة يقوم على أساس واضح هو عدم مرافقة الآلات الموسيقية له، أي أن الإنشاد الفردي للشمامسة والكهنة كما الإنشاد الجماعي للجوقات لا ترافقه آلات موسيقية أثناء إقامة القداديس والصلوات اليومية وصلوات المناسبات الأخرى. وتسمى عالمياً هذه الخاصية ب A Cappella.
وتعتمد هذه الطريقة في الغناء على الخبرة الموسيقية للمنشدين في معرفتهم للألحان الكنسية وتَغيّرها وعلى معرفتهم بتبديل وتعديل في الطبقات الصوتية، ويكون أحد الشمامسة عادة، أو رئيسهم المتمكن من الألحان الكنسية خاصة في القداديس، هو قائدهم الذي يقرر بمسيرة تغيير الألحان والطبقات الصوتية في مجرى جميع صلوات الدينية.
2.1- إن الكنيسة البيزنطية الشرقية وكما الكنيسة السريانية لم تُدخِل في إقامة صلواتها آلات موسيقية مرافقة للإنشاد الكنسي أبداً، لأن الصوت البشري حسب رأي آباء الكنيسة هو أجدر بتمجيد الرب لأنه يعبر بجلاء ودقة أكثر من الآلات الموسيقية وخاصة تعبيره عن صدق عواطف الإنسان الطبيعية وصراحة شعوره.
وعملياً ومن حيث إنشاد الألحان فإن الكنيسة البيزنطية الشرقية منظمة بشكل أفضل من الكنيسة السريانية، والفضل يعود لتقيّدها التام بقواعد الميلوس والإيصن، لأن الميلوس يتميز بمفاتيحه الموسيقية التي تعبّر عن نوعية اللحن ومسيرته وعن درجته الصوتية، وأما الإيصن فهو النوتة الموسيقية التي تضبط اللحن (أي العلامة الموسيقية التي تحدد درجة الصوت الموسيقية)، ويتم إمساكها فيما يرتل المنشد التراتيل، وأغلبها تمسك من قرار اللحن.
فتستخدم الأصوات البشرية لقسم من أعضاء الجوقة أثناء الإنشاد الكنسي الجماعي والفردي كآلات موسيقية مرافقة للإنشاد، فالمقتدر من الجوقة أو من الشمامسة والعارف بالألحان الكنسية يبتدأ بها ويغيّرها ليسلمها للآخرين، بينما قسم من الجوقة يحافظ على الطبقة الصوتية بإصدارهم صوت واحد متواصل هو درجة استقرار سلم مقام الانشودة أو قطعة الصلاة التي تنشد مثل الموال، وهو على الأغلب الصوت القرار لصوت مستقر مقام الانشودة، والذي يكون متفقاً عليه أو مكتوباً في التدوين الموسيقي للانشودة.
وهذه طريقة تنظيمية رائعة تعوّض عن إستعمال الآلات الموسيقية بالمطلق.
3.1- وجود تضارب آراء في الكنيسة السريانية بخصوص مرافقة الآلات الموسيقية للمنشدين أو بعدم المرافقة، كما أكده ابن العبري في كتابه الإيثيقون.
إن الألحان الكنسية السريانية مثلها مثل ألحان الكنيسة البيزنطية قائمة على نظام (أ كابيللا) A. Cappella أي الإنشاد دون مرافقة آلات موسيقية، وهي الكفّة الأرجح في رأي الكنيسة. وسندرس لاحقاً هذا الأمر الذي يوضِّح موقف الكنيسة من إيجاز دخول الآلات الموسيقية للكنيسة أو عدم إيجازها.
2 - النغمية (ميلودية) Melody :
ترتكز الألحان على نغمات موسيقية خاصة تشكل إطارها اللحني العام، وتسمى هذه النغمات اللحن الميلودي.
إن أغلب ألحان الكنائس الشرقية مثل القبطية والبيزنطية والسريانية بفرعيها
الغربي والشرقي هي نغمية (ميلودية)، أي أنها تعتمد على نغمات معينة في آداء ألحانها.
والنظام إكاديس المتبع في الكنيسة السريانية الارثوذوكسية ذي النغمات الثمان يعتمد إعتماداً مطلقاً على الغناء الفردي والجماعي الذين يحققان الغناء النغمي بسهولة. وبالنتيجة فإن ألحاننا الكنسية هي ألحان نغميّة (ميلوديّة) تعتمد في تنفيذها على الطريقة النغمية البسيطة في الغناء التي تتقاطع مع الطريقة التركيبية الإنسجامية الغربية ولا تحققها، لأن طبيعة وصفات وجوهر ألحاننا الكنسية ترفض تنفيذها بالطريقة التركيبية الغربية.
بالرغم من كثرة الألحان الكنسية يستطيع الكهنة والشمامسة القديرين، ورغم إعتمادهم على الذاكرة والسمع، أن يميّزوا كل لحن بواسطة نغمته الخاصة به عن الألحان الأخرى من خلال الفروقات النغمية الموجودة في سلالمها الموسيقية، ويستطيع الموسيقي أيضاً أن يميّز نغمات الألحان عن بعضها بواسطة سلالمها الموسيقية.
3- الأُحادية (مونودية) Monody :
إن الكنيستين البيزنطية والسريانية تعتمدان على اسلوب أُحادي الصوت في الإنشاد الكنسي المسمّى مونودي "الصوت الواحد"، أي على آداء الألحان بطريقة أُحادية بدون مرافقات صوتية أخرى تختلف عنها بالدرجات الموسيقية، فلا تعتمد بالإطلاق على طريقة تعدد الأصوات المسماة (بوليفوني) في آداء الألحان، ويمكن أن ينشد اللحن من قبل منشد واحد يقوم بدور الصوليست (الغناء الإفرادي) دون مرافقات صوتية أخرى له، أو بواسطة جوقة ما ترتل اللحن وبصوت واحد فقط (على سلم واحد) وليس بتعددية صوتية، وكأن الإنشاد الجماعي هو تماماً غناء إفرادي.
أسباب كون ألحاننا مونودية أحادية:
1- تعتمد ألحاننا الكنسية على اسلوب الميلودي المونودي (اللحن النغمي الأُحادي) في الآداء، وليس على الاسلوب البوليفوني (التركيبي)، أي الأصوات المتعددة التي تنشد على سلالم موسيقية مختلفة لتندمج بإنسجام تام وتُخرِج لحناً آخراً رائعاً، أو لتستعمل كطريقة تجميلية للحن، مثل طريقة الجوقات الاوروبية في الترتيل.
2- إن البناء اللحني للألحان الكنسية في المشرق هي من النوع النغمي الميلودي المونودي، وهي تماماً مثل المقامات الشرقية (الفارسية التركية العربية وغيرها) التي تمتاز بكونها أُحادية الصوت وليست من الأنواع التركيبية التناغمية التي تحوي أكثر من صوت ودرجة.
3- تعتمد أغلب الكنائس المشرقية ومنها الكنيستين السريانية الأرثوذوكسية والبيزنطية المشرقية إعتماداً كليا وكبيراً وبشكل كثيف على النغمات الشرقية التي تحوي سلالمها الموسيقية على ثلاثة أرباع الصوت، ومن الصعوبة تطبيق قواعد "البوليفوني" التعددية الصوتية التناغمية عليها.
4- بسبب وجود نصوص كثيرة وقراءات طويلة في الكنيسة السريانية فمن الصعوبة أن تطبق الكنيسة الطريقة التركيبية البوليفونية في صياغة ألحانها وطرق غنائها.
الموسيقا الشرقية ميلودية ومونودية
الموسيقا الشرقية بكليتها هي موسيقا نغمية وأحادية الصوت ومن بالغ الصعوبة تطبيق القواعد الغربية مثل الهرموني والبوليفوني إلّا على جزء صغير منها، فكل المقامات الشرقية لها سلالمها الموسيقية المبنية من نغمات ميلودية معينة وتغنى بصوت واحد (مونودي)، ولكل مقام نغمته الخاصة به التي تغنّى فتميّزها عن صديقاتها الأخر من النغمات، فتميّز المقام عن بقية المقامات الأخرى وتكسبه هويته اللحنية الخاصة به.
وبشكل عام يجب ألّا تدخل الطريقة الغربية البوليفونية على نغمات المقامات، أي الطريقة التعددية التركيبية المتناغمة في الأصوات، لئلّا تفقدها شرقيتها وخصوصيتها. والكنائس المشرقية بشكل خاص تشترك مع المقامات الشرقية بميّزتها الميلودية المونودية، لكن في الآونة الأخيرة غيّرت بعض جوقات هذه الكنائس الخصوصية الشرقية في إنشادها الجماعي وأدخلت على غنائها الطريقة الغربية البوليفونية على إنشادها مع مرافقات موسيقية هرمونية، ولم تعد تحافظ على تقليدها الكنسي أو بدأت على الأقل بعدم الإلتزام به والخروج عنه، وإحداها هي بعض جوقات الكنيسة السريانية الأرثوذوكسية.
ويتبع في الجزء الرابع عشر



الموسيقا السريانية الكنسية
(الجزء الرابع عشر)


خصائص إنشاد الألحان السريانية (2)


بقلم: نينوس اسعد صوما
ستوكهولم


شرحنا في الجزء الثالث عشر من مقالنا بعض خصائص وطرق غناء الألحان السريانية التي كانت كانت:
1- صوتية بالكلية، آ كابيللا: الإنشاد لا يرافقه آلات موسيقية، والصوت البشري هو أجدر بتمجيد الرب من الآلات الموسيقية.
2- نغمية ميلودية: الإعتماد كلياً على النغمات في صياغة الألحان السريانية الكنسية، وهذا ما نلمسه في ألحان نظام النغمات الثمان "إكاديس".
3- أحادية مونودية: اللحن الكنسي كما الشرقي يتكون من نغمة أُحادية وإنشاده يؤدّى بأسلوب أحادي، ولا يعتمد مطلقاً على الأسلوب التركيبي البوليفوني للنغمات، أي توزيع نغمات اللحن على عدة درجات صوتية.
إن الاسلوب البوليفوني والهرموني يتقاطعا مع خاصية الأحادية للألحان الكنسية السريانية المتكوّنة من نغمات شرقية حيث أن سلالمها الموسيقية تحتوي على ثلاثة أرباع الأبعاد الصوتية.
ونتابع اليوم في هذا الجزء الرابع عشر شرح بعض الخصائص الأخرى لإنشاد الألحان السريانية الكنسية كي نتعرف على كيفيّة الإنشاد بدقة أكثر، بهدف المحافظة على ألحاننا السريانية وعلى أساليب إنشادها لئلا تندثر وتضيع بسبب تَبَنّي وبدون معرفة (من قبل الكثيرين وخاصة الموسيقيين منهم) أساليب مطروحة على الساحة الموسيقية غريبة عن تراثنا وتاريخنا الكنسي، كما حصل ويحصل في عصرنا هذا نتيجة عدم أهتمامنا بها وإهمالنا لها.


4- الإنشاد بطريقة التنغيم البسيط

يتميز اسلوب غناء الأناشيد في الكنيسة السريانية بخاصيّة تسمى التنغيم البسيط، وهو اسلوب قديم جداً في الإنشاد كان قد استعمله اليهود في غناء وآداء ألحانهم الدينية لكن مع مرافقة آلات موسيقية كما يخبرنا العهد القديم.
تطورت الطريقة البسيطة في الإنشاد على يد السريان وأعطوها أهمية ومميزات جديدة لتلبس اللحن التعبير الصحيح عن روح الكلمة الدينية، فتميزت بالبساطة الشديدة والعفوية والزهد والمسكنة والخلو من التعقيد والتطريب ومن الفخامة والكبرياء، لأنها ابنة الرهبنة والأديرة المتقشفة والجماعات المتعبدة والمُضطَهَدة.
وبالرغم من المظاهر الملوكية التي تشكل نسبة ضئيلة جداً في الكنيسة، المتمثلة في ألبسة الكهنة أثناء القداديس والإحتفالات الأخرى، فقد أَطلقتُ عليها في الجزء الحادي عشر من مقالنا تسمية "الطريقة السريانية في التنغيم"، بسبب أن معظم الكنائس السريانية ذات الطقس السرياني تستعملها في إنشاد ألحان صلواتها الدينية.
وهذه الطريقة تتقاطع مع الطريقة البيزنطية للإنشاد بسبب إعتماد الأخيرة على الفخامة والعظمة في الآداء وتطويل الجمل اللحنية.


5- الإنشاد بطريقة شعبية

رغم وجود اليوم حالة إستثنائية في الكنيسة السريانية متمثلة في عدم إتقان السريان للغتهم السريانية لفهم النصوص الدينية كما يلزم، إلا أن الكنيسة السريانية كانت تمثل كنيسة الشعب والعامة في العصور الأولى للمسيحية.

1- لأن الشعب كان يتكلم الآرامية في يومياته، ويتقن السريانية الكلاسيكية لغة ثقافته وكنيستة ولغة الكتابة والتداول بين الناس.
2- لأن دورها التبشيري الأساسي كان بين العامة من الناس، فأوصلت البشارة الى الهند والصين، فألتزمت الكنيسة بالطرق الشعبية البسيطة للإنشاد في تقديم صلواتها المناسبة للعامة كخط واضح ومستمر لغاية اليوم.
3- لأن ألحانها تركتز في بنائها الموسيقي على أنصاف السلالم الموسيقية المستعملة في ألحاننا بشكل جلي وأساسي لأجل تحقيق الأسلوب الشعبي في الإنشاد القريب جداً من الغناء الشعبي والذي يتكون بمعظمه من أنصاف السلالم الموسيقية.
4- تراكيب الجمل اللحنية، ومسيرة الألحان وإنسيابيتها هي بالمطلق شعبية، رغم وجود بعض الحالات والأمثلة الدخيلة عليها.

وأما الكنيسة البيزنطية فكانت تمثل كنيسة الملوك والأمراء والطبقات الحاكمة ولغتها كانت اليونانية لغة الثقافة والعلوم آنذاك والتي لم يكن يتقنها العامة من الشعب، فجاءت ألحانها الكنسية وطرق آدائها معبرة عن حالها وواقعها، أي الطريقة الملكية في الإنشاد.


6- الإنشاد بطريقة قرائية

إن الطريقة القرائية في إنشاد قسم من الصلوات الكنسية تعتمد في تنفيذها على الغناء بشكل وكأنما إنشاد النصوص الدينية هو كلام يقرأ ببطء وبهدوء وخشوع مع قليل من التنغيم، وهذه الطريقة هي خالية من المدات اللحنية والتطويل الصوتي في الإنشاد إلا في نهايات المقاطع الشعرية واللحنية أي في القفلات، كما في ألحان بعض الصلوات اليومية والحسايات وفي القراءة النغمية للإنجيل.
وتتمييز معظم الكنائس السريانية وخاصة الكنيسة السريانية الارثوذوكسية في آداء وغناء قسم من ألحان صلواتها بهذه الخاصيّة في الآداء، أما الكنيسة البيزنطية الشرقية فلا وجود لهذه الطريقة فيها ولا تعتمدها في آداء ألحانها، لأنها تعتمد على المد والتطويل في اللحن حتى في قراءات الكتاب المقدس، الذي يميّزها عن غيرها من الطرق ومن الكنائس الشرقية


7- الإنشاد بحكمة

يتميز الإنشاد السرياني الكنسي بخاصيّة مهمة وهي إنشاد ألحان الصلوات الكنسية بحكمة وروحانية مليئة بالورع والتقوى ليكون الإهتمام موجهاً لمعاني النصوص الدينية وليس فقط إلى اللذة الموسيقية الحاصلة من تطريب اللألحان.


8- الإنشاد بمسكنة وتذلل وندامة

يتم التنغيم بطريقة تحوي الكثير من التذلّل وإنكسار النفس وإنسحاق القلب وتواضع كبير ومسكنة واضحة وندامة ولجاجة في صلواتنا وطلباتنا، وعدم رفع الاصوات أمام حضرة الله بكبرياء وعظمة، فنصرخ بحضوره فيكون مخالفاً تماماً لمعاني النصوص الدينية، ومخالفاً أيضاً للتواضع الذي علينا التقيّد به حسب توصيات الكتاب المقدس، فالكبرياء سيبعدنا عن الله الأزلي وعن ملكوته السماوي وعدم حضوره بيننا.
إن النصوص السريانية بمجملها مليئة بالمسكنة والندامة والتذلل والتواضع، وألحانها مطابقة لمعانيها.
فالمتذوق والعارف بالموسيقا الشرقية يشعر بوجود الصفات السابقة في ألحاننا الكنسية عند سماعه لها أثناء إنشادها والتي هي من إحدى خاصّيات ألحاننا السريانية الكنسية.


9- الإنشاد بهدوء وروحانية

من مميّزات الإنشاد السرياني الكنسي الخشوع والروحانية والهدوء الشديد والرصانة للوصول إلى فتح قناة حوارية وتواصل مع الرب لأجل أن يدير وجهه نحونا ويسمع شكوانا وهمومنا من خلال صلوتنا.


10- النغمة الخادمة

لقد ذكرت سابقاً بوجوب أن تكون النغمة خادمة مطيعة للمعنى وليس العكس.
فهذه خاصية مهمة جداً من خصائص الإنشاد السرياني الكنسي، لأجل إدخال معاني النصوص الدينية المغناة الى ذهن ونفس المصلي.
وتبرز هذه الخاصية من خلال ملاحظتنا لتطابق التعبير اللحني لمعنى النصوص الكنسية وحسن استخدام النغمات المطيعة للكلمات ذات الصفات المشتركة مع طبيعة الحدث الذي يتناوله النص الديني.


11- الإنشاد بتعبير وأحاسيس

إن التعبير الصوتي الذي يسمى أيضاً التصوير الصوتي مهم للغاية في الإنشاد الكنسي فعلى المنشد أن يفهم معاني النصوص جيداً ليبكي من الكلمة الباكية ويحزن مع الكلمة الحزينة ويتذلل مع أخرى ويتواضع مع كلمة التواضع ويتمسكن معها ويبرز الندامة عند كلمة الندم.
وعلى المنشد أيضاً أن يبرز وبشكل واضح الورع والحكمة والرصانة في صوته وفي آدائه للصلوات وإلخ ....

إن من مزايا الإنشاد السرياني الكنسي هو التعبير الصوتي عن جوهر مقاصد الكلمة الإلهية، والإحساس بالمشاعر المتواجدة في معاني هذه الكلمة، لتحريك مشاعر جموع المصلين لأجل تحقيق هدف معاني النصوص الكنسية وهي الإقتراب من حضرة الله والشعور بوجوده بينهم.

إن الكنيسة فقدت اليوم الكثير من خصوصيّات إنشاد ألحانها بسبب الكوارث والنكبات والمجازر التي مرّت بها عبر التاريخ، والتي أدّت إلى أن عشعش الجهل والتخلف في كل النواحي الحياتية وزوايا ثقافة أبنائها، والموسيقا الكنسية هي واحدة منها، فخلق نتيجة هذا الأمر تمايز كبير في الإنشاد وإختلافات في جوهر بعض الألحان الكنسية لدى كهنتها وشمامستها في الأبرشيات المنتشرة في المشرق والعالم وكذلك بين كنائس كل ابرشية على حدى. كل ذلك بسبب قلة معرفة هؤلاء في الألحان الكنسية وعدم إتقانهم لخصوصيّات الإنشاد الكنسي، ونتيجة تأثرهم وبشكل واضح وكبير بموسيقا وغناء بيئاتهم المختلفة والغريبة عن الألحان السريانية الكنسية.

ويتبع في الجزء الخامس عشر

الموسيقا السريانية الكنسية
( الجزء الخامس عشر )
خصائص إنشاد الألحان السريانية (3)
بقلم: نينوس اسعد صوما
ستوكهولم


وبعد أن شرحنا مجموعة أخرى من خصائص إنشاد الألحان السريانية الكنسية في الجزئين السابقين من مقالنا ونستذكرهم بإختصار شديد:
1- صوتية آ كابيللا، 2- نغمية ميلودية، 3- أحادية مونودية.
4- التنغيم البسيط ، 5- الطريقة الشعبية، 6- الطريقة القرائية.
7- الإنشاد بحكمة، 8- المسكنة والتذلل والندامة، 9- الهدوء والروحانية.
10- النغمة الخادمة، 11- التعبير والإحساس.
نتابع في جزئنا هذا شرح خصائص مهمة أخرى لتوضيح كيفية الإنشاد السرياني لتلافي الأخطاء المستخدمة أثناء الآداء والتي أثّرت سلباً على طبيعة ألحاننا السريانية الكنسية وحرّفت مسار طُرُق إنشادها وأخذت بعضها إلى التطريب وبعضها الآخر إلى التغريب، فأدّت بقسم منها إلى التخريب.
12- الإرتجال
سأسهب قليلاً في الشرح عن خاصية الإرتجال لما له من أهمية ولأن بسببه خلقت إشاكاليات في ألحان الكنيسة السريانية الأرثوذوكسية تحولت عبر التاريخ إلى
حقائق ومن بالغ الصعوبة تصحيحها عملياً.
تعريف الإرتجال:
هو إنجاز عفوي ونوع من الإلهام والوحي يتم تنفيذه بشكل مباشر أثناء عرض فكرة فنية ما من غير تصميم مسبق أو تدوين ما، يقوم به الشعراء أو المغنيين أو الموسيقيين أو المسرحيين أثناء عروضهم الأدبية والموسيقية والفنية.
فالشاعر يؤديه مبارزاً ومنافساً لغيره من الشعراء، والمسرحي يقوم به معبراً عن موقف ما أو عن حدث طارئ وقع أثناء عرضه المسرحي، والمغني يقوم به آداءاً تجميلاً للحن الأساسي الذي يؤديه، والعازف ينفذه كزخارف إضافية على آلته الموسيقية أثناء قيامه بعزف مقطوعة موسيقية ما.
يختلف مفهوم الإرتجال في كل حضارة عما سواها، ففي الغرب يتجلّى في الموسيقا الكلاسيكية الاوبرالية في فقرة "آداء حر" لإظهار مهارة المغنيين، وفي قالب الكونشيرتو الموسيقي لإظهار مهارة العازف وحرفيته العالية في العزف.
أما في موسيقا الشرق فيتجلّى الإرتجال بشكل كبير في الموال عند المغنيين، وفي التقاسيم الحرة عند العازفين، لإظهار مقدراتهم الصوتية والموسيقية ولإيصال المتلقي إلى حالة النشوة الطربية.
الإرتجال في الموسيقا:
إن الإرتجال في الألحان هو الخروج عنها والعودة إليها ضمن أُطر وضوابط موسيقية معينة، ويَعتَمد على الإمكانيات الموسيقية للمنشد المغني أو العازف.
ففي الألحان التي كتبت بنوتة موسيقية لتعزف وتغنى وتحفظ يكون الإرتجال محدوداً، وأما الألحان الغير مكتوبة بنوتة موسيقية ويُعتَمَد على الذاكرة لحفظها ونقلها يكون للإرتجال فيها مساحات أوسع.
ويُقسَم الإرتجال موسيقياً إلى قسمين:
الإرتجال في الألحان:
يتم من خلاله إضافات لحنية تجميلية على اللحن الأساسي، وهي من عنديات المؤدي (عازف أو مغني) حيث يراها إضافات مناسبة لجوهر اللحن الذي يؤديه.
الإرتجال في الإنشاد:
وهو التصرف في طرق آداء الألحان والتعبير الصوتي وهو موضوعنا الذي نبحث فيه.
ضوابط الإرتجال:
وللإرتجال ضوابط موسيقية كثيرة لمعرفة كيفية إستعماله، خاصة في المواضع التي يحق للمنشد أو العازف التصرف فيها موسيقياً، وهي معايير معينة تختلف بين الشرق والغرب لإختلاف موسيقاتهم.
فالموسيقا الشرقية تعطي حرية كبيرة للمغني في تصرفه بالألحان والإنشاد والتعبير الصوتي، وللعازف في التقاسيم والزخرفة الموسيقية، لإضافة مساحات جمالية أكثرعلى اللحن لكن ضمن ضوابط موسيقية شديدة.
فمن الضوابط المفروضة على إرتجال المغني أو المنشد الشرقي:
ألّا يخرج عن السلم الموسيقي الذي يؤدي فيه، وإن خرج فعليه معرفة كيفية الإنتقال بين السلالم الموسيقية ثم العودة إلى السلم الرئيسي الذي هو بصدده.
ألّا يمس في جوهر اللحن
ألّا يأخذ اللحن إلى مسالك بعيدة عن أهدافه
أن يضيف التصرف في الإنشاد جمالية أكثرعلى اللحن
أن يكون التصوير الصوتي حسناً ومناسباً لمعاني النصوص
أن تكون التغييرات في التكرارات ببعض المقاطع الغنائية مناسبة وجميلة وفيها الجديد.
ويتسم الإرتجال في إنشاد الموسيقا الشرقية بالعذوبة والروحانية وبذوبان المنشد باللحن وبمعاني النص، ويعتمد إعتماداً أساسياً على إمكانيات المنشد في المغنى ومعرفته بالألحان وبطرق إنشادها، وعلى مقدرته الصوتية في الآداء، وعلى مخزونه الفكري (الخبرة) في التعبير الصوتي، وبالتالي فهو يرتكز على معرفته الموسيقية وذاكرته القوية في التصرّف بالألحان، وخير أمثلة واضحة على ذلك هي عند المغنيين الشرقيين في إرتجالاتهم في المواويل وتصرفهم في الأغاني، وعند المنشدين الدينيين في الكنائس والجوامع في أدائهم لأناشيدهم الدينية وبقية صنوف ألحان صلواتهم.
الإرتجال في الكنيسة:
إن آداء الألحان في الكنيسة السريانية غالباً ما يكون من ذاكرة المخزون الثقافي والموسيقي الكنسي للمنشد، لأن الألحان هي متوارثة بكليتها ويعتمد إعتماداً كلياً على الذاكرة في حفظها وتناقلها عبر الأجيال بوسطة:
1- الإكليروس من خلال مراكز حفظها وتلقينها في الأديرة والإكليريكيات.
2- الكهنة والشمامسة الغير متخرجون من الإكليريات من خلال تَعلّمِهِم لها في مواظبتهم على حضور الكنيسة وإشتراكهم في جميع الصلوات اليومية والقداديس والمناسبات الكنسية الأخرى، وإستمراريتهم في سماعها ومتابعتها متابعة خاصة ونقلها للأجيال التي تليهم.
كانت ألحاننا الكنسية قبل سنوات قليلة غير مدونة بالنوتة الموسيقية، ولكن اليوم يوجد كتاب نوتة للألحان الكنسية وهو كتاب (ܒܝܬ ܓܙܐ ܕܩܝܢ̈ܬܐ ܕܥܕܬܐ ܣܘܪܝܝܬܐ) (مخزن ألحان الكنيسة السريانية الارثوذكسية) الذي صدر عام 1992، وكان الموسيقار السرياني القدير "نوري اسكندر" قد قام بتنويطه، وهو متوفر لدى المهتمين من أبناء شعبنا، وللأسف الشديد لا يُستَعمل أبداً هذا الكتاب في كنائسنا لوجود نقص حاد في قرّاء النوتة الموسيقية، وعدم معرفة الكهنة والشمامسة والشعب بقراءة النوتة الموسيقية، فلهذا يقوموا ولغاية الساعة في الإعتماد على ذاكرتهم في الحفاظ على ألحاننا الكنسية ونقلها للأجيال القادمة، والإرتجال من مخزونهم السمعي والثقافي في إنشادهم لها.
لدى الكنيسة السريانية الاورثوذوكسية مشكلة حقيقة هي عدم وجود ضوابط أو قوانين مصاغة للإرتجال، لهذا نلاحظ تسيّب كبير في الكنيسة في هذا الموضوع، لعدم وجود مراكز ولا أساليب أو طرق لحفظ ألحانها سوى طريقة الحفظ الشفهي، فدخلت خطأً على إنشادها الكنسي أساليب طربية وغربية بالرغم من تقاطعه معها.
فنسمع اليوم من الإنشاد الفردي الحر في الكنيسة السريانية وكأنه غناء بالعربية أو التركية أو الكردية والفارسية، ومن الإنشاد الجماعي لجوقاتها وكأنه إنشاد لجوقات كنسية اوروبية أو لجوقات شرقية غير كنسية.
ورأيي بأن هذه الإشكالية هي تاريخية استمرت وكبرت في عصرنا هذا نتيجة التأثر الموسيقي للمنشدين بالمحيط الخارجي، وبسبب تطور التكنولوجيا التي ألغت الكثير من الحدود والفوارق الخصوصية للموسيقات بشكل عام.
إن لكنيسة الروم (البيزنطية الشرقية) تدوين موسيقي "نوتة موسيقية" خاص بها وقديم جداً وهو معمول به لغاية اليوم، كما ورد في الجزء الثاني عشر من مقالنا، لهذا فإن الألحان البيزنطية لا تقبل الإرتجال في الألحان كثيراً ولا التصرف فيها إلا في المواضع والحالات الخاصة، وكأن اللحن البيزنطي في إستعماله التدوين الموسيقي البيزنطي وتطبيقه لقواعد الإيصن والميلوس التي ذكرتها سابقاً هو نص كتابي يقرأ بشكل واضح وبطريقة واحدة فقط.
وأما الإرتجال في الإنشاد (إنشاد الألحان البيزنطية) فالباب ليس مفتوحاً له على مصراعيه، فواجب على المنشد أن يتقيّد بالاسلوب البيزنطي العام بشكل أساسي، وأما كيفية التعبير الصوتي عن معنى الكلمة تبقى على الخبرة والإمكانية الصوتية للمنشد.
ويختصر القول بأن الإرتجال في موسيقا الكنيسة البيزنطية بفرعيها الاورثوذوكسي والكاثوليكي قليل للغاية، ومنضبط جداً لوجود قوانين موسيقية صارمة فيها غير قابلة للمساومة والنقاش.
مساوئ الإرتجال عند السريان
إن للإرتجال والتصرف اللحني مساوئ أدت إلى نتائج سلبية على الألحان السريانية الكنسية ومنها:
1- إن الإرتجال في الألحان الكنسية الذي يقوم به أغلب الكهنة والشمامسة بطريقة خاطئة أدى إلى أنهم غيروا بعض الشئ في هيكلية بعض الألحان الكنسية وفي كيفية غنائها. معتقدين بأنه إرتجال تجميلي، دون أن يتقيدوا بالقوانين الموسيقية وكيفية الإرتجال وطرق آداء الألحان، فخلقوا بعض المشاكل الموسيقية لعدم معرفتهم الجيدة بالألحان الكنسية وأصول الموسيقا ولا التقليد الكنسي في الآداء المتوارث.
2- إن التصرف في الألحان الكنسية من قبل المنشدين، أثر سلبياً وبشكل كبير على ألحان الكنيسة السريانية الأرثوذوكسية، وخلق اختلافات وفروقات كبيرة في طرق الإنشاد بين المنشدين وفي آدائهم للألحان كنتيجة مباشرة لهذا التصرف غير المنضبط.
3- إن الإضطهادات والنكبات التي لحقت بالكنيسة أدت الى إضعافها وإغلاق مدارسها وإلى إنخفاض حاد في مستوى التعليم، فقل عدد العارفين بالألحان.
وهؤلاء القلة من العارفين بالألحان قاموا بنقلها لغيرهم من المهتمين حسب معرفتهم بها، إن كانت جيدة أو سيئة، بعد أن تأثروا بالموسيقات التي تحيط بهم، فتكونت إختلافات طفيفة في الألحان وفروقات كبيرة في آدائها.
4- إن إبتعاد الكنائس عن بعضها جغرافياً أدى إلى ظهور إختلافات في آداء الألحان وطرق إنشادها نتيجة تأثر كل منها بمحيطها الموسيقي، وازدادت هذه الاختلافات نتيجة للتصرف والإرتجال الذي قام به المنشدون من كهنة وشمامسة دون ضوابط موسيقية في حفظ وآداء الألحان و طرق الإنشاد.
إن الاختلافات المعروفة في اساليب آداء الألحان الكنسية بين بعض المناطق السريانية، برزت كنتيجة للأسباب السابقة، وهذا ضعف في الكنيسة لعدم محافظتها على شكل واحد للألحان السريانية الكنسية خلال مسيرتها عبر التاريخ.
إن الإختلافات التي حصلت خلال التطور التاريخي للكنيسة، مضافاً إليها العزلة في آداء كل منطقة سريانية منفردة، أصبح لكل منها طابعاً موسيقياً متميّزاً خاصاً بها، وأصبحت اليوم تسمى "اساليب" موسيقية، لكن وحسب رأيي أن أساسها قائما على الخطأ في آداء ذات اللحن، لأن الأصل كان واحداً فتغيّر.
فمار افرام السرياني مثلاً عندما ألّف ولحّن أو حتى غيره من آباء الكنيسة قطعة كنسية ما، لم ينشدوها بأساليب متعددة ومختلفة، بل بطريقة واحدة فقط، فكيف أصبح لها ثلاثة أساليب لإنشادها.
كما أن التعابير أو التسميات الحديثة التي ظهرت مؤخراً على الساحة السريانية مثل: "مدرسة ماردين للألحان السريانية أو لآدائها"، أو "مدرسة الرها" أو "مدرسة الموصل" وغيرها التي أختفت أو في طريقها إلى الإختفاء، هي عبارة عن مسميات خاطئة لأساليب الإنشاد الكنسي، حيث أنها ظهرت نتيجة للأسباب السابقة واستُعِملَت من قبل بعض الموسيقيين الهواة لعدم درايتهم الكافية بالإنشاد الكنسي بشكل صحيح.
إن عدم وجود مراكز موسيقية في الكنيسة السريانية أو معاهد خاصة تهتم في حفظ الألحان الكنسية وتعليمها يساهم مساهمة كبيرة في تعميق مشكلة الفروقات في الألحان وفي إنشادها، وثم في ضياع ألحاننا واساليب آدائها. وهذا إنذار أرفعه لمسؤولي الكنسية ليعوا الدور الذي يلعبوه، ويهتموا بالقضية بشكل جدي، ويؤسسوا معاهد تهتم بدراسات وحفظ الألحان الكنسية وكيفية تناقلها من جيل إلى آخر بوسائل حضارية.
ويتبع في الجزء السادس عشر

الموسيقا السريانية الكنسية
(الجزء السادس عشر)
خصائص إنشاد الألحان السريانية (4)

بقلم: نينوس اسعد صوما
ستوكهولم
ننهي دراستنا لخصائص الإنشاد بميزة عدم استعمال ضروب مرافقة لألحاننا الكنسية. ولكن قبل ذلك لابد من تعريف بسيط عن الأوزان والضروب الموسيقية للمعرفة العامة.
الوزن الموسيقي
الوزن الموسيقي (أو الميزان) هو عبارة عن رقمين يعلو أحدهما الآخر (مثل ارقام الكسور) يوضعان في بداية سلم النوتة الموسيقية بعد المفتاح الموسيقي وبعد علامات التحويل مباشرة، ويشرحه الباحث الموسيقي سليم الحلو في كتابه "الموسيقا النظرية" بقوله: " الرقم الأسفل يدل على الوحدة الزمنية الكاملة، والرقم الأعلى يدل على عدد النوتات التي تحتويها كل مازورة من القطعة الموسيقية".
وهناك أوزان ثنائية مثل الوزن البسيط، وثلاثية مثل الوزن المركّب، ومركّبة مثل البسيط الأعرج والمركّب الأعرج.
ومشرقنا الحبيب يحوي جميع أنواع الأوزان الموسيقية ولكنه يشتهر بالأوزان المركّبة العرجاء.
الإيقاع أو الضرب
هو تتابع عدد من الضربات والنقرات التي تختلف فيما بينها من حيث الترتيب والقوة والضعف، فتشكل نظاماً مستقلاً يسير اللحن عليه.
ويقوم الضرب بتحديد مناطق الضعف والقوة في الأزمنة الموسيقية التي تحتوي عليها المساحة الزمنية تبعاً لنوع الوزن الموسيقي التي تنتسب إليه.
والإيقاعات ثلاثة أنواع هي: العادية، والمتداخلة، والشاذة. والعالم يعج بالإيقاعات بحيث أنها لا تحصى، فكل منطقة جغرافية كبيرة لها إيقاعاتها الخاصة بها متعلقة بذوقها العام وتميّزها مع موسيقاها عن إيقاعات وموسيقات مناطق جغرافية أخرى.
13- خاصيّة عدم وجود إيقاعات مرافقة في ألحاننا الكنسية
إن إحدى أهم خواص إنشاد ألحاننا السريانية الكنسية هي عدم إستعمال إيقاعات موسيقية مرافقة لها أثناء القيام بإنشادها، حتى في أنواع الصلوات التي تبرز فيها الروح الإيقاعية بشكل كبير وبالرغم من قول البعض بأن الإيقاعات كانت مستعملة يوماً وأبطلت. لهذا سنوضح في مقالنا هذا أسباب وأهمية هذه الخاصيّة.
إن ألحاننا السريانية تقسم لثلاث مجموعات، فالأولى هي ألحان موزونة موسيقياً، والثانية شبه موزونة، والثالثة غير موزونة على الإطلاق.
وألحاننا الكنسية الموزونة أو الشبه موزونة غير مستخرج أوزانها حتى اليوم بشكل دقيق ومنشور في مطبوعات، ولا يوجد معرفة جيدة عن تفاصيل أوزانها لعدم وجود دراسات منشورة عنها، فنأمل من باحثي الموسيقا السريانية الكنسية العمل على استخراج هذه الأوزان وتحديد مناطق الضعف والقوة بحسب الضغوطات المتواجدة في أجزاء اللحن والكلمة، لأجل المحافظة عليها مع خصائصها الموسيقية والإنشادية بشكل علمي وحضاري لتحفظ في الكتب من الإندثار والضياع ولتوريثها إلى أجيالنا القادمة بشكل سليم ومقبول ولتبقى ألحان معاشة.
فكتاب الموسيقا السريانية "ܒܝܬ ܓܙܐ ܒܢܘܛܐ" بيث كازو (مخزن الألحان) بنوته، من وضع الموسيقار نوري اسكندر، هو خال تماماً من الأوزان الموسيقية وكانت له أسبابه الخاصة في عدم وضعه للأوزان الموسيقية في كتابه هذا كما شرحها في حديث صحفي له قبل أكثر من عشرين سنة.
وأما كتاب: Melodies Liturgique" للفرنسي المستشرق Dom Jeannin، الذي يحتوي أيضاً على نوته "البيث كازو ܒܝܬ ܓܙܐ"، ففيه شيئاً من الأوزان الموسيقية لكنه أعتمد في نوتته على الأوزان الصغيرة فقط، ويبدو أنه قسَّمَ أيضاً الأوزان الطويلة التي تحويها ألحاننا إلى أوزان صغيرة.
لكن هذا الكتاب يحوي مشكلة حقيقية وهي أن النوته الموسيقية التي كتبها "جنان" لا تحوي على ثلاثة أرباع الصوت التي تحقق الموسيقا الشرقية (أي ربع الصوت الشرقي)، إنما تحوي فقط على المسافة الصوتية الكاملة ونصفها، أي البعد الموسيقي الكامل ونصف البعد، مما أخرج موسيقانا الكنسية من أصالتها وشرقيتها. وفي طبعة 1995 لهذا الكتاب وهي النسخة التي بحوزتنا أضاف إليها مشكوراً المطران الموقر أنطوان بيلوني نوته شرقية لبعض الصلوات وأهمها نوته لقسم من التضرعات "ܬܟܫܦܬܐ".
كما قام الباحث الموسيقي الأب د. إيلي كسرواني بتنويط البيث كازو معتمداً على صوت المثلث الرحمات البطريرك يعقوب الثالث، وكذلك ببعض الأبحاث على الألحان السريانية الكنسية حسب قوله في لقاءاته المتلفزة، ولكن لم أطّلع شخصياً على محتوى كتابه وأبحاثه لعدم طباعتها ونشرها لنعلم إن كان قد عمل على استخراج الأوزان الموسيقية للألحان الكنسية أم لا.
أولاً- الألحان الموزونة
إن القسم الكبير من الألحان السريانية الكنسية هي موزونة بموازين موسيقية مختلفة، منها بسيطة ومنها مركبة ومنها عرجاء، لكنها خالية تماماً من مرافقة الضروب لها بالرغم من الروح الإيقاعية السائدة والواضحة المعالم في الكثير منها، مثل الكثير من ألحان صلوات كتاب الشحيمو "ܫܚܝܡܐ" (ويدعى كتاب الصلوات اليومية البسيطة).
ويؤكد لنا عدم مرافقة الضروب لألحاننا الكنسية شاعر الكنيسة وقيثارتها القديس مار يعقوب السروجي (توفي 521م) في قصيدته المشهورة في وصفه لقديسنا ومعلمنا العظيم وكنارة الروح القدس مار افرام السرياني (توفي 373م) الذي نشرها الأب بولس بيجان (توفي 1935م) في طبعته لقصائد يعقوب السروجي، حيث قال:
ܝܰܒܒܝ ܗ̱ܘܝ ܓܶܝܪ ܥܶܒܪ̈ܝܳܬܐ ܒܰܠܦܰܓܰܝܗܝܢ
ܘܗܳܪܟܳܐ ܡܫܰܒ̈ܚܳܢ ܐܳܪ̈ܡܳܝܳܬܐ ܒܡܰܕܪܫܝܗܰܝܢ.
(الترجمة):
" كانت الفتيات العبرانيان تضرب بدفوفهن، (أي في العهد القديم)
وهنا تمجد الفتيات الآراميات الرب بمداريشهن ". (أي في عهد الكنيسة)
ويقول أيضاً:
ܦܽܘܡܐ ܣܟܺܝܪܐ ܕܰܒܢܬ ܚܰܘܳܐ ܦܬܰܚ ܝܽܘܠܦܳܢܳܟ
ܘܗܳܐ ܒܩܳܠܰܝܗܝܢ ܪܳܥܡܝܢ ܟܶܢܫܐ ܕܰܡܫܰܒܚܬܐ.
(الترجمة):
" إن تعليمك (يا مار افرام) فتح ألسنة بنات حاوى المغلق،
وهوذا تدوي من أصواتهن جموع الكنائس ".
هذا تصريح واضح من السروجي في عدم مرافقة أي نوع من الآلات الموسيقية لجوقات المنشدات ولا حتى الإيقاعية منها كما كانت العادة جارية في القرن الرابع والخامس والسادس الميلادي.
فقول السروجي: "تمجدن الآراميات بمداريشهن" في المقطع الأول، ولم يقل "تمجدن الآراميات بآلاتهن الموسيقية أو بدفوفهن"، ليؤكد لنا على استعمال الضروب في عصره، مثلما ذكر العبرانيات اللواتي كنَّ تضربن بدفوفهن في العهد العتيق، مؤكداً على استعمالهن للإيقاعات.
وقوله: "تدوي الكنائس من أصواتهن" في المقطع الثاني، ولم يقل "تدوي الكنائس من آلاتهن الموسيقية". مؤكداً بأن الآلات الوحيدة المستعملة في الكنائس التي تستحق أن تمجد الرب هي الأصوات البشرية. وهذا خير دليل على عدم استعمال الآلات الموسيقية في تلك العصور.
إذاً ومن خلال تراثنا المدوَّن نستنتج بأن الآلات الإيقاعية لم تدخل الكنيسة لترافق إنشاد الألحان الكنسية، بل اقتصرت فقط على بعض المظاهر الصغيرة في بعض الإحتفاليات الدينية الشعبية التي تقام موازية لبعض المناسبات الكنسية.
ثانياً- الألحان الشبه موزونة
إن وجود ألحان عديدة شبه موزونة موسيقياً أو أنها غير موزنة هي من نوع الفلت أو الفالت الذي يعتمد على المدّات اللحنية أو التطويل في بناء وتكوين جملها اللحنية الموسيقية، وهي منظمة بدقة متناهية وكأنها موزونة ولكنها خالية تماماً من الروح الإيقاعية، مثل التضرعات (التخشفتات ܬܟܫܦܬܐ) التي تتناول معظم نصوصها قضية الموت والحساب والعقاب. تؤكد لنا شحّة إستعمال الآلات الإيقاعية في الكنيسة، فلو شاء آباؤنا الملحنون لغيّروا في تركيبة بنائها اللحني ولجعلوها موزونة موسيقياً ولربطوها بإيقاعات.
ثالثاً- الغير موزونة
هي كثيرة مثل قراءات الأناجيل والحسايات والفنقيث والجزء الأكبر من صلوات القداديس وبعض الأدعية والطلبات العامة، وتقسم إلى قسمين:
ألحان تنشد على طريقة الموال ونراها واضحة في أدوار الكهنة والشمامسة في القداديس، وهذا قالب موسيقي شرقي لا مكان فيه للأوزان الموسيقية أو الإيقاعات، ويأخذ غالباً طابع الإرتجال من المعرفة والذاكرة في تنفيذه.
وألحان تعتمد على الطريقة القرائية في إنشادها (أو طريقة "تسمعية منغمة" حسب رأي الباحثة الموسيقية د. غادة شبير)، وهذه الألحان أيضاً غير موزونة أو مربوطة بإيقاعات، مثل قراءات "الإنجيل المقدس".
ويَعتمد آداء الألحان الغير موزونة والغير مرتبطة بإيقاعات على الذاكرة الجيدة والإمكانية الصوتية للمنشدين، وعلى معرفتهم وخبرتهم وإجتهادهم في الإرتجال والتصوير الصوتي.
إن إعتماد الكنيسة السريانية الكبير على الكم الهائل من الألحان الغير موزونة يدعم أيضاً الرأي بعدم مرافقة الإيقاعات للألحان الكنيسة.
عدم وجود أسماء لإيقاعات في كنيستنا
إن تاريخنا الكنسي وتاريخنا المدني شاهدان حيّان على عدم وجود إيقاعات في كنيستنا مرافقة للإنشاد، فهما خاليان تماماً من ذكر الأوزان والإيقاعات.
فكتب التاريخ السرياني لم تتعرض مطلقاً لهذا الأمر، فقط كتاب "الإيثيقون" للفيلسوف السرياني غريغوريوس ابن العبري رصد قضية إيجاز أو عدم إيجاز إدخال الآلات الموسيقية إلى الكنيسة.
ونتيجة للعرض السابق فالرأي الأرجح في كنيستنا هو: عدم وجود ضروب مرافقة لألحاننا الكنسية أثناء القيام بإنشادها.
مغالطات
إن الذي أوردناه أعلاه من إثباتات بالمصادر الكنسية ينفي إدعاء البعض بقولهم بأن "الإيقاعات رافقت الإنشاد الكنسي، ولكنها أُبطلت لظروف تاريخية قاهرة مرّت بها الكنيسة"، دون أن يقدموا لنا مصادر كنسية تاريخية يثبتوا فيها إدعاءاتهم هذه، فما هذه الإدعاءات سوى محاولة منهم لإدخال الإيقاعات والآلات الموسيقية إلى الكنيسة بحجة تمدين الكنيسة أو تطويرها وتحديث ألحاننا الكنسية، بينما تاريخنا الكنسي وتقليدنا الكنسي المتوارث ومع الذي أوردناه موسيقياً من إثباتات يؤكدوا بعدم إستعمال إيقاعات موسيقية مرافقة لأناشيدنا الكنسية.
فالبعض من شبابنا المتحمس للتجديد، ودون معرفة بتاريخنا الكنسي، ودراية غير كافية بألحاننا الكنسية وبطرق إنشادها، وتجاوزاً للتقليد الكنسي المعروف لدى المهتمين والعارفين، أنتجوا بعض الأعمال الموسيقية الكنسية في عصرنا هذا، فوضع منهم لبعض الأناشيد القديمة إيقاعات بأسماء جديدة مستوحاة من التاريخ القديم أو من المتواجدة على الساحة الموسيقية لمعرفتهم بعدم وجود إيقاعات أو ذكر لأسماء أنواعها في كتبنا الكنسية والتاريخية، فأعتبروا هذا الأمر فراغاً موسيقاً فحاولوا استغلاله ليتسلقوا على ظهر كنيستنا وتراثنا وليظهروا أنفسهم على الساحة السريانية بمظهر الرواد الابطال المجددين لموسيقانا الكنسية، وكأن الآباء السريان القدماء العظام هؤلاء الملحنون العباقرة كانوا عاجزين عن وضع إيقاعات بأسماء لتآليفهم الموسيقية. فتأمل مغالطات بعض المغامرين.
وللعلم فإن آبائنا لم يُدخلوا الى أناشيدهم وألحانهم إيقاعات ما، بل صاغوها بهذا القالب أو الشكل لأسباب دينية بحتة، لأن الإيقاعات لا تليق بمعاني النصوص الروحية ولا بألحانها المعبرة عن الخشوع والتضرع والمسكنة والزهد والحزن والألم والبكاء والتذلل.
في نهاية هذا الجزء من المقال أقدم الشكر الخاص للفنانة والباحثة في الموسيقا الشرقية (ومنها السريانية الكنسية) الدكتوره في العلوم الموسيقية "غادة شبير" لأجوبتها على اسئلتي، وعلى مداخلاتها وتعليقاتها القيّمة في الفيسبوك على قسم من أجزاء مقالنا، وأيضاً لآرائها الصائبة التي نستفيد منها في بعض الإشكاليات الموسيقية الكنسية.
يتبع في الجزء السابع عشر
الموسيقا السريانية الكنسية
(الجزء السابع عشر)
الـتأثير البيزنطي على الأناشيد السريانية (1)

بقلم: نينوس اسعد صوما
ستوكهولم

التأثير اليوناني/البيزنطي
لن أفتح باب التأثير اليوناني على مصراعيه في أدبيات الكنيسة السريانية، فهو كبير للغاية وواضح المعالم خاصة لغوياً من خلال الكلمات اليونانية الكثيرة المتواجدة في نصوص الطقوس السريانية الكنسية، وأدبياً من خلال النصوص الكنسية المترجمة من اليونانية إلى السريانية، وموسيقياً من خلال أسماء بعض مجموعات أنواع الألحان الكنسية واسلوب آدائها، فهذا التأثير هو دليل قاطع على وحدة الكنيسة المسيحية الأم الأولى.
فكما أن كلمة ܛܶܟܣܐ "طقس" هي يونانية ومعناها الترتيب والتنظيم، ونستعملها بمعنى شعائر الديانة واحتفالاتها الروحية، هناك الكثير من الكلمات اليونانية في نصوص طقوس الكنسية السريانية ومنها:
إكليروس: المقصود بها أصحاب الرتب الكهنوتية، إنجيل: ومعناها البشارة السارة. ليتورجيا: تعني خدمة الإفخارستيا المقدسة. انافورة: تعني القداس الإلهي أو تقديم الأسرار. افخارستيا: معناها الشكر. بطريرك: معناها رئيس الآباء أو أب الآباء. مطران: معناها مسؤول المدينة الكبيرة. أسقف: معناها الرقيب. خوري وهي إختصار خورإفسقوفوس: معناها أسقف القرى. إكليريكي: معناها وظيفة رجل دين.
وسأكتفي بهذا المقدار من الكلمات لأترك موضوع كتابتي ضمن إطار التأثير الموسيقي اليوناني/البيزنطي، وفقط على جزء صغير من ألحاننا السريانية وخاصة في بعض أنواع الأناشيد الكنسية، والذي هو موضوع بحثنا هذا.

والتأثير هو يوناني وبيزنطي معاً، لأن اليوناني أثّر لغوياً وأدبياً في أدبيات كنيستنا، وفي بعض أنواع الأناشيد السريانية التي لا زالت أسماؤها يونانية، والبيزنطي أثّر على جزء صغير من أناشيدنا السريانية الكنسية موسيقياً كطريقة موسيقية خاصة في آداء الألحان الكنسية والتي تسمى الطريقة البيزنطية في الإنشاد الديني.

الأناشيد الكنسية ومؤلفيها
إن الأناشيد الكنسية السريانية هي أنواع من التراتيل والصلوات تتميّز عن بعضها بسبب قالبها الشعري وبأسباب وضعها ( تأليفها ). وتتناول نصوصها مجموعة أحداث الكتاب المقدس وصلوات عامة وصلوات للتوبة والشكر وطلبات وتضرعات وأدعية واستغفارات واسترحامات وغيرها. إن عدد أنواع هذه الأناشيد يبلغ 37 نوعاً، وأن أسماء معظمها سريانية وقليل منها يونانية، وهي موزعة بشكل دقيق حسب مواضيع نصوصها ومناسباتها على "كاليندار" السنة الكنسية، وتنشد وفق ما قرره لها من ألحان "نظام الألحان الثمانية" المعروف لدى السريان بالأسم اليوناني "إكاديس".
أما مؤلفيها فمعظمهم من السريان مثل مار افرام السرياني (373م)، ومار رابولا الرهاوي القنشريني المولد (435م)، ومار بالاي (القرن الخامس)، مار اسحق الرهاوي المعروف بالأنطاكي (491م)، ومار يعقوب السروجي (521م)، والشعراء الموسيقيين المعروفين باسم "القواقين، الفخارين" وأهمهم الشماس مار شمعون قوقويو (563م)، وغيرهم كثيراً.
أما قسم الألحان والأشعار المترجمة من اليونانية فبعض من مؤلفيها سريان لكن كتبوها باليونانية، امثال أندراوس الكريتي (720م)، ويوحنا الدمشقي (749م) والراهب قوزما البار الشقيق المتبني ليوحنا الدمشقي (القرن الثامن)، وصفرونيوس الدمشقي (639م).
وبعض الألحان الأخرى فإن مؤلفيها هم يونان مثل: مار غريغوريوس اللاهوتي (389 أو 390م)، ومار قورلس الأورشليمي (386م)، ومار سويريوس الأنطاكي الملقب بالسرياني (538م)، وغيرهم.

1- الأناشيد السريانية:
إن معظم الأناشيد السريانية هي ملحّنة على الطريقة السريانية الكنسية من ناحية تركيب سلالمها الموسيقية، أي مبنية من أنصاف السلالم أكثر أو أقل بقليل، وعلى أسلوب التعبير السرياني في تكوينها اللحني وفي طرق آدائها، ويكاد يكون القسم الكبير منها خالية من التأثيرات اليونانية وهي:
ܒܳܥܽܘܬܐ "بوعوثو"، ܩܳܠܐ "قولو"، ܓܢܺܝܙ̈ܐ "غنيزي"، ܓܽܘܫܡܐ "كوشمو"، ܗܽܘܠܳܠܐ "هولولو"، ܙܽܘܡܳܪܐ "زومورو"، ܟܽܘܪܳܟܐ "كوروخو"، ܡܺܐܡܪܐ "ميمرو"، ܡܰܘܪܒܐ "ماوربو"، ܡܰܕܪܳܫܐ "مَدروشو"، ܟܳܪܘܙܽܘܬܐ "كوروزوثو"، ܡܰܥܒܪܳܢܐ "معبرونو"، ܣܽܘܓܺܝܬܐ "سوغيثو"، ܡܰܙܥܩܳܢܺܝܬܐ "مزعقونيثو"، ܡܶܬܥܰܗܕܳܢܘܬܐ "مثعهدونوثو"، ܣܽܘܬܳܪܐ "سوتورو"، ܣܶܕܪܐ "سِدرو"، ܥܶܛܪܐ "عِطرو"، ܦܺܝܪܡܐ "فيرمو"، ܣܶܒܠܬܐ "سِبلثو"، ܥܽܘܢܺܝܬܐ "عونيثو"، ܡܰܥܢܺܝܬܐ "مَعنيثو"، ܥܶܩܒܐ "عِقبو"، ܦܶܬܓܳܡܐ "فتغومو"، ܬܰܟܫܶܦܬܐ "تخشفتو"، ܦܶܪܕܐ "فردو"، ܩܰܕܝܫܰܬ ܐܰܠܳܗܐ "قاديشات الوهو"، ܩܽܘܒܳܠܐ "قوبولو"، ܩ̈ܠܶܐ ܫܰܗܪ̈ܝܶܐ "قولي شهرويي"، ܫܽܘܒܚܐ "شوبحو"، ܬܒܳܪܬܐ "تبُرتو".
وكل اسم من الأسماء السابقة هو عبارة عن اسم لمجموعة يدل على نوع خاص من الأناشيد، وتضم كل مجموعة من هذه المجموعات عدد كبير من الأناشيد، وتتميز كنسياً عن بعضها بأسمائها.
وقد ذكر علامتنا البطريرك مار أغناطيوس أفرام برصوم الأول (1957م) في كتابه "اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية" هذه المجموعات بتفصيل أكثر، وبيّن ما تحويه من أعداد الأناشيد، وما بقي منها محفوظاً لغاية اليوم، وقد أخذها عنه المطران غريغوريوس يوحنا ابراهيم وذكرها في كتابه الموسيقا السريانية.

2- أناشيد يونانية في الطقوس السريانية
هناك خمس مجموعات من الأناشيد الأخرى أسماؤها يونانية، هي جزء لا يتجزأ من تراثنا الكنسي ونستعملها لغاية اليوم، وهي دليل واضح على التأثير اليوناني/ البيزنطي على كنيستنا وألحاننا الكنسية، حيث أن معظمها أُلِّفت باليونانية وترجمت شعرأً أو نثرأ إلى السريانية مثل:
1- ܣܛܺܝܟܘܢܘܣ "سطيخون"، ستيخونوس أو "سطيخونات" وهي من تصنيف مار قورلس الأورشليمي (386م)، وتستعمل في طقس الميرون ورسامة الأحبار.
وسطيكون أو ستيكون أو ستيخون مصطلح بيزنطي يعني ترتيل أو تلاوة، وهي كلمة يونانية ومعناها آية أو عدد.
2- ܩܽܘܩܳܠܝܳܘܢ "قوقليون" كلمة يونانية ومعناها الدائرة، وهي آية من المزامير تتوسطها لفظة هليلويا.
3- ܩܳܢܽܘܢ̈ܐ ܝܰܘܢܳܝ̈ܐ "قنوني يَونويي" أي القوانين اليونانية، وتستعمل بمعنى القاعدة أو الفريضة في الكنيسة، ولكن معناها الحرفي باليونانية هو المقياس أو القياس، ويقابلها وحسب رأينا بالسريانية كلمة ܡܫܘܚܬܐ "مشوحتو"، ومؤلفيها هم أندراوس الكريتي (720)م، ويوحنا الدمشقي (749م)، والراهب قزما البار، ويعقوب الرهاوي (708م).
4- ܩܰܬܺܝܣܡܰܛܘܣ "قاتيسمطوس" أو القاتسمات، كلمة يونانية ومعناها المجالس تتلى والاكليروس جالس.
5- "ܣܛܝܟܰܪܘܣ" ستيخاروس، وتسمى الإستيخارات، وهي أشعار منثورة من وضع القديس أياوانيس ذهبي الفم "القديس يوحنا الذهبي الفم" ( 407 - 347م)،
وهي كلمة يونانية ومعناها الأناشيد.
6- هناك نوعين آخرين من الأناشيد تستعمل في القداديس وهي أيضاً يونانية التسمية:
- أنشودة ܩܰܬܘܠܺܝܩܺܝ "قاتوليقي"، ومعناها الجامع والشامل، ويتم إنشادها في وسط القداديس، تتناول نصوص هذا النوع من الأناشيد مناسبات الأحاد التي تنشد فيها. وقسم منها حديث العهد قام بتأليفها في ستينيات القرن الماضي عميد اللغة السريانية آنذاك الشاعر والأديب الكبير الملفونو عبدالمسيح قره باشي (توفي في لبنان عام 1984). وقام الاب الموسيقار بول ميخائيل (كاهن كنيستنا في بيروت، اطال الله في عمره) بوضع ألحانا جميلة لقسم منها لأجل جوقات الكنيسة.
- صلاة ܠܘܛܰܢܺܝܰܐ "لوطانيّا" ومعناها طلبة، ويتم إنشادها في وسط قداس كل أحد بعد أنشودة القاتوليقي، وأما معانيها فتشير إلى نقاء وطهر الكنيسة.
ويبدو بأن اللوطانيّا أخذت دوراً جديداً في الكتب الكنسية الحديثة تتقاسمه مع القاتوليقي، فنرى بأنها تحل محل انشودة القاتوليقي في بعض الكتب التي طُبِعَت حديثاً وجدِّدَت لإستخدامات جوقات الكنيسة.

وكما ذكرت أعلاه بأن القسم الكبير من أناشيد هذه المجموعات تعتمد ألحانها على أنصاف السلالم الموسيقية في تركيبها النغمي، وتنشد بطريقة سريانية خالية من مؤثرات وتأثيرات خارجية، وهذا دليل على سريانيّتها لحناً وإنشاداً.
والقسم الآخر الصغير من هذه الأناشيد مبنية ألحانها على سلالم موسيقية كاملة، وهذه دلالة على أن طريقة تلحينها هي بيزنطية، ولكنها تنشد بطريقة سريانية خالصة.

3- أناشيد بيزنطية شرقية (من كنيسة الروم)
إن الموسيقا البيزنطية هي مصطلح يطلق على موسيقا الكنسية الطقسية التي تستخدمها طائفتي الروم الأرثوذكس والكاثوليك اللتان تتبعان الكرسي الانطاكي الرسولي، أو الطوائف التي تتبع الكنيسة اليونانية في الشرق والعالم. والموسيقا البيزنطية هي نظام موسيقي عريق وقديم جداُ بدأ مع بداية المسيحية وتطور وأنتشر واستمر إلى اليوم.
وجميع مسمّيات الأناشيد البيزنطية هي باللغة اليونانية رغم وجود أناشيد قديمة أُلِفَت باللغة العربية منذ زمن بعيد لكنها تندرج تحت مسمّيات يونانية، وقسم من مؤلفيها هم من السريان مثل أندراوس ويوحنا وقوزما وصفرونيوس الدمشقيون، ويعقوب الرهاوي (708م) وغيرهم. ومن هذه الأناشيد:

القنداق
"القنداق" نمط شعري كُتبت فيه التسابيح والأناشيد الكنسية باليونانية في القرنين السادس والسابع. يعتمد على السرد القصصي وذكر الحوادث المهمة المرتبطة بالمناسبة المعيّد لها. وقيل بأن كلمة قنداق يونانية تعني الدَّرْج، ومن الأقباط من شرحها بأنها تعني العصا التي يلف عليها ورق البردي.
ويتألف القنداق عامة من مقدمة قصيرة توجز مضمونه، تليها مقاطع تسمى "أبياتاً"، يتراوح عددها بين 20 و 30 بيتاً، ينتهي كل منها بعبارة لازمة هي العبارة الأخيرة من المقدمة، وقد كان القنداق يتلى في صلاة السَحَر.

القانون
"القانون" هو أيضاً نمط شعري برز مع إنحِسار استعمال القنداق. كُتبت فيه الأناشيد الكنسية بين القرنين الثامن والحادي عشر. يتألف القانون عادة من تسعة أجزاء تسمى "اوديات" (مفردها اودية وتعني تسبحة) وتتألف كل اودية من مقاطع متعددة ترتل على نغم ووزن المقطع الأول منها المسمّى ارمس (أي أفتح فمي).
وأشهر المؤلفين القديس يوحنا الدمشقي (القرن الثامن)، وقوزما الدمشقي وأندراوس الكريتي (الدمشقي أيضاً) وثيوفانس اسقف ازمير (القرن التاسع)، والقديس يوسف المنشئ (القرن التاسع).

الطروبارية
"الطروبارية" مصطلح يعني ترنيمة، وهي كلمة يونانية مشتقة من "تروبوس" أي أسلوب لحن. وقيل أنها مشتقة من "تروبايون" أي النصر. فيكون معناها تسبيحة النصر، لأنها تُبَيِّن انتصار السيّد المسيح على الموت والجحيم، وانتصار القديسين على أعداء الخلاص. والترنيمات الكنسية الوجيزة أخذت تُسمى بهذا الاسم منذ أيام القديس يوحنا ذهبي الفم (347-407 م).
وعند القول طروبارية القديس الفلاني، فيقصد منها الترنيمة التي تحوي ملخص بسيط عن حياة هذا القديس أو قصة العيد المحتفل به.

وهناك أيضاً أنواع أخرى كثيرة من الأناشيد البيزنطية منها: الكيكرغاريا، البولياليوس، الأرمس، الأيذيوملون، الأينوس، الستيشيرات، الإذيوميلات، والكاتسماتات، وغيرها. وكما نلاحظ بأن جميعها هي ذات أسماء يونانية.

يتبع في الجزء الثامن عشر

الموسيقا السريانية الكنسية
(الجزء الثامن عشر)

الـتأثير البيزنطي على الأناشيد السريانية (2)
التأثير على الأناشيد المعروفة باسم ܬܰܟܫܦܳܬܐ "تخشفوثو" (التضرعات)

بقلم: نينوس اسعد صوما
ستوكهولم


التأثير اليوناني/البيزنطي
بعد أن بيّنا بإقتضاب في الجزء السابق من مقالنا شيئاً من التأثير اليوناني على اللغة السريانية وآدابها المدنية والكنسية، والتأثير البيزنطي الموسيقي على قسم من ألحاننا السريانية، نتابع في جزئنا هذا دراسة كيفية التأثير الموسيقي البيزنطي على نوع من الأناشيد السريانية في سلالمها الموسيقية وفي طريقة إنشادها.

4- ܬܰܟܫܦܳܬܳܐ "تخشفوثو" التخشفتات (التضرعات)
ولتبيان التأثير البيزنطي على موسيقانا السريانية الكنسية، أو الأصح على بعض من ألحاننا الكنسية أخترت نوع من الأناشيد التي تسمّى ܬܰܟܫܦܳܬܐ "تَخشفوثو" لتوضيح هذا التأثير بالرغم من اسمها السرياني الخالص.
وتسمى بالعربية التضرعات ويقال لها التخشفتات، ويسميها العلاّمة البطريرك أفرام برصوم الأول (1957م) في كتابه الشهير"اللؤلؤ المنثور" بالإبتهالات. وهي نوع من الأناشيد تتناول أحداث قسم كبير منها تراجيديا الفداء والخلاص، وقسم آخر الأعياد السيّدية وأعياد العذراء والقديسين.
واقتبس بتصرف ماكتبه عنها صاحب اللؤلؤ المنثور:
"يقال في بعض المخطوطات بأن التخشفتات من تأليف مار افرام السرياني (373م)، ومار رابولا الرهاوي (435م)، ومار ماروثا التكريتي (649م)، وغيرهم من الجهابذة السريان. ورتّبها مار يعقوب الرهاوي (708م)، وقيل بأن عددها ثلاثمائة، ووصل إلينا منها مائتان وخمسة واربعون".
أما الرأي السائد في الكنيسة هو أن مبتكر القالب الموسيقي لهذه الأناشيد، ومؤلّف وملّحن قسم كبير من نصوصها وألحانها هو العبقري المبدع رابولا الرهاوي (435م) القنشريني المولد.

صفات هذه الأناشيد:
لهذه الاناشيد صفات كثيرة مميزة نذكر اهمها:
1- الروح الفردية: تتصف معظم ألحان البيث كازو بالروح الجماعية في إنشادها، لكن مجموعة التخشفتات تتصف بالروح الفردية، حيث أنها تعتمد على الصوت الواحد الإنفرادي في آدائها، وليس على الأصوات الجماعية مثل أصوات مجموعة الجودو "ܓܽܘܕܳܐ" التي تنشد الصلوات اليومية من كتاب الشحيمو "ܫܚܺܝܡܳܐ" أو على اصوات جوقات الترتيل التي تشارك في القداديس بشكل جماعي، فمن بالغ الصعوبة أن تنشد التخشفتات جماعياً لأنها تحوي على تعرجات وإنعطافات لحنية كثيرة، وصعود إلى جواب اللحن بشكل مفاجئ أحياناً، ومدّات وتعقيدات لحنية بيزنطية كثيرة من تلك التي يعتمد تطبيقها على الصوت الواحد، ولهذا تنشد دوماً بشكل إفرادي من قبل منشد مقتدر حسن الصوت.
وكانت لنا محاولة صغيرة في تعليم إثنتين منها إلى جوقة الترتيل بطريقة الإنشاد الجماعي قبل أكثرمن عشرين سنة، ولكننا اعتبرناها محاولة فاشلة فتخلّينا عن الفكرة، لأن صياغة لحن التخشفتو بحسب إنشاد الجوقة يؤدي إلى تقليم لحنها، وأخذها إلى منحى آخر غير الهدف الذي من أجله وضِعَت، وإلى تغيير في إطارها اللحني العام، والذي سيؤدي بالنتيجة إلى عدم الحفاظ على اللحن الاصلي، وإلى فقدان قيمته التراثية القديمة.
كما أن أغلب المتحمسين الذين حاولوا تطبيق هذه الفكرة وفكرة التجديد، قد وقعوا في نفس المطب الذي وقعنا فيه دون علمهم أو لعدم معرفتهم بثوابت الموسيقا الكنسية، خاصة أولئك الذين أطّروا اللحن الكنسي بأوزان وإيقاعات فأخرجوه عن مألوفه المتعارف عليه.
2- الطول: تتصف أغلبها بطول زمن إنشادها، فقسم منها تجتاز العشرة دقائق طولاً. وطولها لا يقاس بطول نصوصها الدينية إنما بطول إنشاد لحنها، فبعض منها تتميّز بطولها اللحني وقصر نَصّها.
3- صعوبة آدائها: إن لم تكن أصعب الألحان السريانية الكنسية آداءاً على الإطلاق فهي من أصعبها، لأن ألحانها ليست من النوع السهل البسيط أبداً، وتحتاج لمعرفة جيدة بالألحان الكنسية وإلى مقدرات صوتية كبيرة مع تقنية موسيقية عالية يملكها المؤدي.
4- شعرها هو من النوع الذي يسمّى مداريش "ܡܰܕܪܫܶܐ"، والمداريش هي نوع من الشعر السرياني المتعدد الأوزان، واشتهر بها كثيراً القديس مار افرام السرياني.
5- المواضيع التي تعالجها نصوصها هي من نوع الدراما التراجيدية بأغلبها، مثل تراجيديا الفداء والخلاص، أو تحضير النفس للوقوف أمام العدالة الإلهية، وغيرها.
6- ألحانها هي أيضاً من النوع الدرامي الفخم الجميل، تحوي الرهبة والخشوع والحزن بكثرة، فتنقاد الأذن لسماعها حتى نهايتها.

بعض التخشفتات الدارجة:
ܛܰܥܡܶܗ ܕܗܳܒܶܝܠ "طعمِه دهوبِل"، ܗܳܐ ܓܶܝܪ ܝܰܘܡܳܬܰܢ "هو جِر ياوموثان"، ܐܶܡܰܬܝ̱ ܕܰܠܚܰܪܬܼܳܐ "إماث دالحَرثو"، ܐܰܝܟ ܬܰܓܳܪܶܐ "آخ تاجورهِ"، ܒܢܰܚܠܳܐ ܕܝܘܫܳܦܳܛ "بنَحلو ديوشوفوط"، ܡܰܢ ܠܳܐ ܢܶܒܟܶܐ ܥܰܠ ܚܘܒܰܘܗܝ "مان لو نِبكي عال حاوباو"، ܐܰܝܟܰܘ ܥܽܘܬܪܳܐ "أيكاو عوثرو"، ܚܰܬܼܢܳܐ ܡܫܺܝܚܳܐ "حاثنو مشيحو"، ܫܽܘܒܚܳܐ ܠܛܳܒܳܐ "شوبحو لطوبو"، ܒܟܘܠܳܗ ܐܰܪܥܳܐ ܐܶܬܼܒܰܩܺܝܬ "بكولُه ارعو إثباقيث"، وغيرها.

التأثير البيزنطي على ܬܰܟܼܫܦܳܬܳܐ:"تخشفوثو" (تضرعات)
يختبئ تحت عباءة ألحان ܬܰܟܼܫܦܳܬܐ "التضرعات" شيئاً من التأثير البيزنطي بالرغم من اسمها "تخشفوثو" الذي يوحي إلينا ويعطينا إنطباعاً عاماً بأنها سريانية قلباً وقالباً، وهذا التأثير موجود فيها لكونها لُحِّنَت أساساً بطريقة بيزنطية، لهذا سنوضح هذا التأثير موسيقياً.

1- إن التراكيب اللحنية لمجموعة ܬܰܟܫܦܳܬܐ "التخشفتات" تعتمد على السلالم الموسيقية الكاملة أو أكثر، والسلالم الموسيقية الكاملة هي من خصائص الموسيقا البيزنطية، بينما الألحان السريانية الكنسية تعتمد بمعظمها في تراكيبها اللحنية على أنصاف السلالم الموسيقية من أجناس وعقود أو أقل. وعمليتي التلحين والصعود والهبوط النغمي على السلالم الموسيقية الكاملة ذات المساحات الموسيقية الكبيرة تختلفان تماماً عن عمليتي التلحين والصعود والهبوط النغمي في أنصاف السلالم الموسيقية ذات المساحات الموسيقية الصغيرة. فهناك تمايز وفرق واضح بين ألحان هذين الشكلين من الموسيقا مما يكسبهما خصائص موسيقية معينة خاصة بكل منهما.

2- وجود مدّات نغمية وتطويل لحني بكثرة مع بعض التراكيب النغمية المعقدة نسبياً في ألحان التخشفتات، وهذه من سِمات الألحان والموسيقا البيزنطية التي تحقق شكل الفخامة والعظمة في أسلوب إنشادها، وتميّز أسلوب الإنشاد البيزنطي عن الأسلوب الإنشاد السرياني.
فالألحان السريانية الموزونة موسيقياً والشبه موزونة خالية من التعقيدات في تراكيبها النغمية، ولا تعتمد مطلقاً على التطويل اللحني (المدّات النغمية)، وإن وجِد فيها تطويل ما خاصة في نهايات جملها الموسيقية، فَيُملأ بحروف "الزيادة السريانية" المتفق عليها تقليدياً والتي تستخدم حسب طول النغمة (سنأتي على ذكرها مفصلاً في مقال قادم)، لكن طريقة إملاء المدّات النغمية بالحروف الزائدة غير موجودة بألحان التخشفتات أبداً، وذلك لعدم إعتمادها على الطريقة السريانية التقليدية في التلحين إنما على الطريقة البيزنطية المعروفة، وهذا واضح في تراكيب ألحانها وفي اسلوب آدائها.

3- إن طريقة إنشاد التخشفتات هو أسلوب مزدوج ممزوج من بيزنطي وسرياني معاً، يحوي الكثير من الوقار والرهبة والعظمة لتبيان مدى أهمية الفداء والخلاص في إيماننا المسيحي، وهذا اسلوب بيزنطي في الإنشاد ومن خصائصه الوقار والعظمة والرهبة والفخامة.
كما أن الجمل الموسيقية في تراكيب ألحانها هي في أغلبها جمل موسيقية شرقية بحتة، تحوي بين طياتها الكثير من مؤثرات الحزن والبكاء والخشوع والتقوى والزهد، وهذه من خصائص إنشاد الألحان السريانية التي تحقق الطريقة السريانية البسيطة في التعبير اللحني والتصوير الصوتي لمعنى الكلمة، والتي قمنا بشرحها سابقاً بشكل مفصّل في الجزء الرابع عشر من مقالنا.

لكن رغم كل التأثير اليوناني-البيزنطي الواضح في مجموعة التضرعات "ܬܰܟܫܦܳܬܐ" وفي مجموعات أُخَر من الأناشيد السريانية الكنسية، إلا أنها تنشد جميعها بلَكنة وبطريقة موسيقية سريانية واضحة، وبتعبير وتصوير صوتي سرياني خالص.
أما ما نسمعه اليوم من المنشدين الذين ينشدون التخشفتات بشكل معقول، هي أصوات تحوي الكثير من المؤثرات البيزنطية الغريغورية في آدائها، هذا واضح بشكل جلي في تسجيلات البعض من التخشفتات التي سجلها الشماس القدير سمعان زكريا بصوته الرهاوي الأصيل وبطريقته الخاصة، (شماس في الكنيسة السريانية في مدينة ستوكهولم أمد الله بعمره)، وكان قد تعلّمها بدوره ونقلها لنا من شمامسة وكهنة رهاويين أصيلين وقديرين في الألحان الكنسية، منهم: الكاهن حبيب توكمجي، والشماس يوسف كوسا، والشماس ابراهيم توكمجي.
فطريقة مطّ اللحن (المدات اللحنية) التي يتبعها الشماس زكريا في آدائه هي بيزنطية وليست سريانية، والتكنيك الصوتي الذي استعمله في آدائه الحاوي على نبرات وتعرجات وعطفات صوتية وعلى فخامة وعظمة هو أيضاً من البيزنطي.
وكان الشماس المذكور زكريا قد لحّن بنفسه تخشفتو ܩܰܒܶܠ ܒܪܰܚܡܰܝܟ "قابِل برَحمَيك". بطريقة تعدُّ رهاوية ومقبولة، وتحوي شيئاً من الأصالة السريانية وشيئاً من عبق وعراقة تاريخنا، وسجلها بصوته في نفس التسجيل السابق، مضيفاً بذلك مع الألحان الأخرى التي لحّنها للكنيسة بصمة صغيرة إلى تراثنا الكنسي.
فالتأثير البيزنطي/اليوناني لغة وأدباً وموسيقةً واضح وكبير في التراث السرياني الكنسي تماماً كما المدني، ولا زال مستمراً بصلواتنا وبأصوات منشدينا وبجزء من ألحاننا، وهذا لا ضير فيه مطلقاً، لأنه نتيجة لتفاعل الحضارتين اليونانية/البيزنطية والسريانية.

تنويط التخشفتات
وأما عملية تنويط هذه الأناشيد فكانت متعثرة لأسباب تعود للذين اشتغلوا في تنويط البيث كازو (كتب مخزن الالحان الكنسية السريانية)، لكن المطران الموسيقي مار أنطوان بيلوني مطران حلب سابقاً للسريان الكاثوليك، كان قد قام مشكوراً بتنويط البعض من هذه التخشفتات، مثل: ܫܠܰܚ ܐܳܕܳܡ "شلاح أُدُم"، و ܥܰܠ ܛܘܽܪ̈ܝ ܚܽܘܪܺܝܒ "عال طوراي حوريب"، و ܒܢܰܚܠܳܐ ܕܝܘܽܫܳܦܳܛ "بنَحلو ديوشوفوط"، و ܐܰܝܟ ܬܰܓܳܪܶܐ "آخ تاكورهِ". ونشرها في الطبعة الثانية (سنة 1995) من كتاب "بيث كازو" للمستشرق الفرنسي جنان (Dom Jeannin O. S. B. ).

وإن عدم نشر نتاجات الذين نوّطوا البيث كازو في كتب أو نشرات، لم يتسنّى لنا الإطّلاع عليها لنعلم إذا كانوا قد اشتغلوا في تنويط التخشفتات أم لا، مثل الأب الباحث الموسيقي الدكتور إيلي كسرواني والأب الموسيقار جورج شاشان.

الإختلافات في التخشفتات
إن ظاهرة إختلافات الألحان والإنشاد في التخشفتات هي واضحة وتعود إلى مجموعة الإختلافات التي خُلِقَت بألحان البيث كازو بشكل عام، والتي تسمى "أساليب إنشاد البيث كازو" نسبة للمنطقة التي تطورت الألحان فيها وتغيّرت وأخذت شكلاً وقالباً جديداً في آدائها.
فوصل أمر الإختلاف بين الأسلوبين الرهاوي والمارديني في غناء قسم من التخشفتات الى إختلافات لحنية وإنشادية بينهما، وسنقوم بتوضيح مفصّل عن الاسلوبين في مقال قادم يتناول أساليب الإنشاد السرياني.
ويبدو أن بلورة وتطور ألحان التخشفتات، في كلا من المنطقتين الرها وماردين، وأخذههما شكلاً مغايراً عن بعضهما كان ذو فاعلية كبيرة، كما أن تأثّرَهما بموسيقا جغرافيتهما كان كبير الحجم حتى حصلت هذه الإختلافات. واليوم هناك من يميل في آدائه للتخشفتات إلى اللكنة التركية وآخر إلى الكردية أو العربية متأثرين بشكل كبير بموسيقا محيطهم، وهذا أمر أعتبره شخصيّاً من العيوب التاريخية والأخطاء الجسيمة التي طرأت على موسيقانا الكنسية.
فمثلاً: لحن تخشفتو ܛܰܥܡܶܗ ܕܗܳܒܝܠ "طَعمِه دهوبِل" في الأسلوب الرهاوي يختلف كثيراً عن ذات اللحن في الأسلوب المارديني، والإختلاف ليس مقتصراً على اللحن فقط إنما في طريقة إنشاده أيضاً فهو إختلاف كبير حتى يخاله السامع بأن اللحنين لا علاقة ببعضهما قط. وكذلك ألحان تخشفتو ܐܶܡܬܝ ܕܰܠܚܰܪܬܐ "إماث دَلحَرثو"، وتخشفتو ܐܰܝܟ ܬܰܓܳܪܐ "آخ تاجُورهِ"، و ܫܘܒܚܐ ܠܛܳܒܐ "شوبحو لطوبو".

أصوات وتخشفتات وتأثير بيزنطي
أصوات كنسية كثيرة مجدت الرب وتمجده، وكل صوت حسب إمكانياته ومعرفته، ولكن ليس كل "صوت هو مصوت" كما يقال، وليس كل من "ينشد فهو يصلي"، فمن أراد ان يُسمِعَ صوته للآخرين فعليه أولاً أن يمتلك موهبة الصوت الحسن، وثانياً أن يصقل صوته بالمعرفة الموسيقية، وكنسياً بمعرفة ألحانها وأصول آدائها، وثالثاً أن يكون الإيمان غامراً قلبه ليكون إنشاده صلاةً وليس غناءاً.

هناك أصوات معروفة عاصرناها أو سمعناها بتسجيلات غنت تخشفتات معينة بأشكال متفاوتة في الإتقان وفي جمالية الآداء، فكل صوت من هذه الأصوات كان يتقن جزء منها وليس جميعها، أمثال:
الشماس القدير جورج ماعيلو توفي في القامشلي 1976. الاب حبيب توكمجي توفي في حلب 1978. الموسيقار السرياني كبرييل اسعد توفي في ستوكهولم 1997. الاب صليبا صومي توفي في القامشلي/سوريا 2006. الشماس يوسف أفرام توفي في لبنان 2007.
الشماس سمعان زكريا. الاب منير بربر. الاب ملكي يلماز. الأخَوَين سمعان وبطرس حضرولي. وجميعهم من من مدينتي سودرتاليه وستوكهولم السويد. أمد الله بعمرهم جميعاً.
وغيرهم مثل المرحومين: الملفونيثو إيفلين داوود، والملفونيثو سعاد يوسف، والملفونو يوسف شمعون، والشماس سعيد الأعمى، وجميعهم من مدينة القامشلي.

فرغم التأثير البيزنطي الواضح الذي شرحنا عنه أعلاه في جوهر ألحان التخشفتات التي سمعناها من الاصوات المذكورة إلا أن قسماً منها حمل في إنشاده تأثير بيزنطي أكثر من غيره دون قصد أو معرفة منه، وذلك لأسباب متعلقة في نشأته الجغرافية والتعليمية والكنسية والموسيقية.
فمثلاً: إنَّ عمّنا المرحوم الموسيقار كبرئيل اسعد كان يتّقن مجموعة صغيرة من أسلوب ماردين وقليل من أسلوب الرها، لكن بدقة متناهية وحرفية عالية بعد أن وضع بصمة موسيقية موفقة عليها، وكان إنشاده فيه فخامة وعظمة وتكنيك صوتي ليس من الإنشاد السرياني إنما من البيزنطي، مما يدل على أن الأسلوب البيزنطي في الإنشاد مسيطر على هذا النوع من الأناشيد، بل أن عمنا كبرييل اسعد كان يطلب منّا أثناء إنشاده لها في جلساتنا الخاصة أن ننشد معه صوت الإيصن (الذي كنا قد شرحنا عنه في الجزء الثاني عشر مقالنا) في نهايات الجمل الموسيقية الطويلة، وهذا أمر بيزنطي صرف.

كما أننا سمعنا أيضاً قسماً من التخشفتات بأصوات مغنيين سريان مشهورين، ولكنهم لم يتوفقوا في إنشادها، لأنهم بعيدين كثيراً في آدائهم عن روح الصلاة ومقاصدها الدينية، وقريبين جداً في آدائهم من الغناء العام الحفلاتي، فكأنما هؤلاء يُغَنّون ولا يُصَلّون، أي يتعاطون الإنشاد مثل فنّ الغناء، وهناك فرق شاسع بين من يغنّي وبين من يصلي.
وقال أحد آباء الكنيسة في هذا الأمر: "بأن تعاطي الترتيل كفنّ هو تفريغ للكلام الروحي من مضمونه، وهذه علّةٌ قاسيةٌ أن يُغفَل المعنى وتُحسَب لغة النغم غايةً في ذاتها. فهذا يعتبر زنى في كل حال . لأن العلّة في هذه الحالة هي عدم تصديق المرنّم وهو واقف أمام يسوع المسيح أثناء الإنشاد بأنه حيّ في قرارة نفسه، بل إنه يجعله وثناً بين الأوثان في هذه الحالة، لأن الإحساس بالمقدسات يموت في نفسه".
وحقيقة المشكلة تكمن بأن البعض يأتي ليستعرض قدراته الصوتية في الكنيسة خاصة في القداديس، وليس لأجل الصلاة والخدمة الروحية، فيقع في حب الظهور الذي يخرجه عن سياق الصلاة ويدخله في الكبائر.

يونانية أم سريانية
وفي النتيجة أن التفاعل الحضاري من ثقافي وكنسي بين اليونان والسريان كان كبير الحجم وعميقا في التاريخ، فلا إستغراب إن وجدت مسحة من التأثير اليوناني على تراثنا الكنسي، بسبب الروابط الكبيرة التي كانت تربطنا بهم، هذا أمر ليس بمعيب قط، ولا يقلل من شأن الكنيسة السريانية، ولا من دور السريان الثقافي تاريخياً، ولا من نتاجهم الفكري والحضاري.
وإن ما وضحته أيضاً من تأثير يوناني كبير على التراث الكنسي السرياني، لا ينفي أبدا حجم التأثير السرياني الكبير في التراث الكنسي اليوناني، ولا في الكنيسة السريانية الناطقة باليونانية، ولا في الكنيسة اليونانية نفسها، وهذا معلوم للقاصي والداني.
فلو علِمنا بأن الكثير من المؤلفات المنسوبة لمار أفرام السرياني المفقودة بالسريانية، هي موجودة باليونانية ترجمت في عصره أو بعده قليلاً، لعلِمنا مدى عمق التأثير السرياني بالتراث اليوناني الكنسي، وكما كنت قد ذكرت سابقاً في المقال بأن الكثير من النصوص اليونانية كانت تكتب في مدن سريانية الهوية والثقافة، أو ذات الثقافة المشتركة الممزوجة من السريانية واليونانية، ليُعمَل بها في أنطاكيا ودمشق وحمص ومدن أخرى سريانية الهوية ويونانية الثقافة، وأيضاً ليُعمَل بها في مدن يونانية الهوية والثقافة معاً.

ملاحظة:
ان نقطتي الجمع في الكلمات السريانية قد تم رفعها لأنها تقطع الكلمة حين اضافتها.

ويتبع في الجزء التاسع عشر

الموسيقا السريانية الكنسية
(الجزء التاسع عشر)

تعريف بأساليب إنشاد الألحان الكنسية (1)

بقلم: نينوس اسعد صوما
ستوكهولم

ملاحظة:
ان نقطتي الجمع في الكلمات السريانية قد تم رفعها لأنها تقطع الكلمة حين اضافتها.

الطقوس والألحان الكنسية
بعد تنظيم وتثبيت الطقوس والألحان السريانية الكنسية على يد العلامة الكبير مار يعقوب الرهاوي (708م)، وإنتشارها في كل مراكز التعليم والأديرة والكنائس السريانية المشهورة تاريخياً المتواجدة في مناطق واسعة من مشرقنا الحبيب، تطورت الألحان الكنسية عبر التاريخ بشكل بسيط في كل منطقة على حِدى منفردة ومستقلة بذاتها عن تطور ألحان منطقة أخرى، فطرأ على بعضها القليل من التغيير وأخذت طابعاً خاصاً بها ممتزجاً بنكهة موسيقا محيطها الجغرافي. كما تبلور أيضاً آداؤها بالتدرج الزمني آخذاً شكلاً خاصاً به مختلف عن آداء مناطق اخرى. فسمّينا هذا الطابع التطوري وهذا الشكل الآدائي الطارئان على ألحان كتاب مخزن الألحان "بيث كازو" "ܒܝܬ ܓܰܙܐ" والكتب الطقسية الأخرى ب: "أسلوب الإنشاد الكنسي". وبالسريانية نقول عنها "ܩܘܝܳܡܐ ܕܙܘܡܳܪܐ ܥܺܕܬܢܳܝܐ"، وذلك تصحيحاً للمصطلحات الخاطئة المستعملة في عصرنا هذا.
فأصبح لكل منطقة جغرافية سريانية أسلوبها الخاص في إنشاد الألحان الكنسية والذي تُعرَف به اليوم ويميّزها عن اسلوب منطقة أخرى، وهذا الأسلوب له نكهته وصفاته ومشاكله الموسيقية الخاصة به التي خُلِقَت نتيجة مشاكل كنسية وظروف تاريخية قاسية عصفت بكنيسة وشعب تلك المنطقة.

أساليب مختلفة للإنشاد
يؤكد اليوم جميع المهتمين والعارفين بالألحان الكنسية السريانية بوجود إختلافين رئيسيين في إنشادها عن الأصل المفقود: إختلافات لحنية صغيرة، وإختلافات إنشادية كبيرة، وهذه الإختلافات تكبر أو تصغر حسب المناطق الجغرافية التي تطورت وتبلورت فيها الألحان، والتي شكلت لنا في النهاية مجموعة من الطرق في الإنشاد مختلفة أحياناً ومتقاربة أحياناً أخرى.
فمنذ أزمنة غير معروفة اصبحت الألحان تنشد بطرق كثيرة متقاربة أو متباعدة عن بعضها، ونحن ورثناها على ما هي عليه من مشاكل وإختلافات، فأطلقنا على طرق الإنشاد هذه مصطلح "الأساليب المختلفة في الإنشاد الكنسي"، وبالسريانية تسمية "ܩܘܝܳܡܶܐ ܡܫܰܚܠܦܶܐ"، بعد أن اصبحت اليوم واقعاً مفروضاً على الكنسية يميّز شكل إنشاد منطقة عن أخرى، وعلينا التعامل معه بشكل جدي ودقيق.
ونقول في إنشاد الأساليب المختلفة لألحان البيث كازو بالسريانية: ܒܩܘܝܳܡܶܐ ܡܫܰܚܠܦܶܐ ܙܳܡܪܝܢܰܢ ܩܝܢܳܬܳܐ ܕܒܶܝܬ ܓܰܙܳܐ.
وأقتبس التالي من مقالنا الجزء الخامس عشر في أمر المصطلح "أساليب مختلفة" الذي استعملناه في مقالنا:
"التعابير أو التسميات الحديثة التي ظهرت مؤخراً على الساحة السريانية مثل: "مدرسة ماردين" للألحان السريانية أو لآدائها، أو "مدرسة الرها" أو "مدرسة الموصل" وغيرها التي أختفت أو في طريقها إلى الإختفاء، هي عبارة عن مسمّيات خاطئة لأساليب الإنشاد الكنسي، حيث أنها ظهرت واستُعمِلَت من قبل بعض الموسيقيين الهواة لعدم درايتهم الكافية بالإنشاد الكنسي بشكل صحيح".
فلم نقرأ أبداً في تاريخنا السرياني أو سمعنا بأن أحد من آباء الكنيسة قد درس الألحان الكنسية بحسب مدرسة الرها للألحان الكنسية مثلاً أو مدرسة الموصل أو ماردين. فكل مدارسنا التاريخية القديمة التي إندثرت تماماً وأختفت من الوجود وأصبحت من الماضي لم تدرّس الألحان الكنسية بحسب كذا أو كذا، إنما كانت تعلّمها وتلقّنها كما ورثتها وتناقلتها شفهياً ودون مسميات معينة.
واليوم لا وجود لمعاهد رسمية أو مدارس موسيقية كنسية تقوم بتدريسها ليتخرج منها طلبة متّقنين هذه الألحان بحسب مدرسة ما.
أما رأينا الشخصي في قضية تعددية الأساليب في إنشاد ألحان البيث كازو والإختلافات في ما بينها، هو كما وضحته في الجزء الخامس عشر أيضاً، أن "أساس هذه الإختلافات قائم على الخطأ في آداء ذات اللحن، لأن الأصل كان واحداً فتغيّر"، واستعمال كلمة مدرسة هو تكريس لهذا الخطأ وجعل هوة الفروقات بين الاساليب اوسع، وبالتالي إبعادها عن بعضها اكثر بدلاً من محاولة العمل على جمعها بشكل واحد قريب من الأصل.

أساليب متعددة في الإنشاد
ونقول عن الأساليب المتعددة بالسريانية "ܩܘܝܳܡܶܐ ܣܰܓܝܐܶ".
إن أشهر الأساليب المعروفة إنتشاراً وإتقاناً وتداولاً في إنشاد ألحان البيث كازو "ܩܝܢܳܬܳܐ ܕܒܶܝܬ ܓܰܙܐ" كما نقلتها الأجيال لنا بأسلوبين مُمَيَّزَن جداً هما:
الأسلوب الرهاوي ܩܘܝܳܡܳܐ ܕܐܘܪܗܳܝ، والاسلوب المارديني ܩܘܝܳܡܳܐ ܕܡܶܪܕܳܐ. لكنهما مختلفان إنشادياً عن بعضهما بشكل واضح، وموسيقياً مختلفان في بعض الألحان، وسَنُقدِم على تعريف بالأسلوبين في مقالنا القادم بشكل أكثر تفصيلاً.

يوجد لدينا أسلوب ثالث لا يقلّ في الأهمية والشهرة عن الاسلوبين السابقين في إنشاد ألحان البيث كازو، هو أسلوب أهل الموصل في العراق، ويسمّى بأسلوب "دير مار متى" الواقع قريباً من مدينة الموصل، وبالسريانية نسميه "ܩܘܝܳܡܳܐ ܕܡܰܘܨܰܠ، ܐܰܘܟܝܬ̣ ܩܘܝܳܡܳܐ ܕܡܳܪܝ ܡܰܬܰܝ". وهو منتشر في كل المناطق التابعة لمدينة الموصل والمجاورة لها، بل أن كل سريان العراق من الذين ينتمون للطائفة السريانية الارثوذكسية يتبعونه اليوم في إنشادهم للألحان الكنسية.
وأسلوب "دير مار متّى" قريب جداً من أسلوب ماردين في الإنشاد، لكنه يتميّز بلكنة عراقية واضحة المعالم، وكذلك ببعض الفروقات البسيطة في جزء صغير من الألحان التي نعتبرها تشوهات لحنية تاريخية لها أسبابها.
سمعنا هذا الأسلوب من تسجيلات البطريرك مار اغناطيوس يعقوب الثالث المتوفي سنة 1980، ورغم تأثره قليلاُ بأسلوب ماردين لكنه يبقى افضل وأشهرمن أتقنه، بل أفضل من أّتّقن الألحان الكنسية على الإطلاق. وسَنُعَرِّف عنه اكثر في مقالنا القادم.
كما سمعنا حديثاً في المهجر شيئاً من هذا الاسلوب من كهنة وشمامسة قليلون ينشدونه بلكنة عراقية أكثر وضوحاً من لكنة البطريرك يعقوب الثالث، بالإضافة إلى تغييرات بسيطة في بعض الألحان.
إن رياح التعريب كانت قد ضربت الاسلوب الموصلّي في صميمه منذ فترات طويلة في كنائسنا في الموصل وبغداد وبصرى لكن ليس في بلداتنا التي تتكلم السريانية الشرقية، فأدّت في بدايات القرن العشرين إلى تأليف عدداً لا بأس به من الأناشيد الجديدة في اللغة العربية واصبحت واقعاً مفروضاً بعد أخذت مكانها في الكثير من كنائسنا في العالم.
وإن ما يحصل اليوم من كوارث ومجازر في العراق الجريح وما يمرّ به شعبنا السرياني بكافة طوائفه في محنة قاسية وظروف صعبة، ومع الهجرة الكبيرة التي تحصل وشتات سريان العراق في كل مكان، أصبح هذا الاسلوب المميّز نسبياً عن أسلوب البطريرك يعقوب الثالث مهدداً بخطر النسيان والإندثار. ففي سبيل المحافظة عليه كما هو عليه اليوم، نطلب من العارفين فيه تسجيله من جديد لئلّا يذوب في الأساليب الاخرى ويضيع، ثم العمل على نشره بالوسائل الحديثة ليصبح في متناول أيدي الجميع لأجل إقامة دراسات موسيقية مقارنة عليه مع تسجيلات البطريرك أولاً، ثم مع تسجيلات لألحان الأساليب الاخرى ثانياً.
وأما الأسلوب الرابع الشهير هو أسلوب أهل منطقة حمص المعروف ب "أسلوب صدد" ܩܘܝܳܡܳܐ ܕܨܰܕܰܕ، ويضم المناطق المحيطة والتابعة لمدينة حمص. وكان لهذا الاسلوب قيمة كبيرة وإنتشاراً واسعاً في بعض المراحل التاريخية، لكنه إنحسر وأنكفأ في بعض البلدات الصغيرة والقرى العائدة لمدينة حمص.
ونتيجة الهجرة الأولى للشعب السرياني من أهالي المنطقة إلى الامريكتين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إنتشرهناك لمدة وجيزة ثم أختفى مع ذوبان أبناء جيل المهاجرين الأوائل.
ومع تعريب أغلب الطقوس الكنسية في سوريا وخاصة في منطقة حمص وتوابعها، ومع نزيف الهجرة الثانية لأهل المنطقة في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم والمستمرة لغاية اليوم، أختفى القسم الكبير من أسلوب صدد، ولم يصل إلينا شيئاً منه بالقدر المطلوب سوى بعض النثرات الصغيرة لنحكم عليه بشكل موسيقي، وخاصة الحكم عليه في كيفية تأثّره بأسلوب الإنشاد البيزنطي، وبموسيقا منطقته التي ميّزته عن الأساليب الاخرى. نتمنى على من يملك تسجيلات لهذا الاسلوب نشره على مواقع الإنترنيت ليتسنّى للجميع الإطلاع عليه، أو تسجيله ونشره.

أما أسلوب أهل آزخ المتمثل اليوم بأسلوب سريان مدينة ديريك في سوريا فهو متفرّع من الاسلوب المارديني وله بعض الخصوصيات الصغيرة، فنطلب من الشمامسة القديرين العارفين بهذا الأسلوب تسجيله ونشره بالوسائل الحضارية لئلّا ينقرض إن لم يكن مسجلاً.
وأسلوب أهالي أديَمان ودياربكر وملاطيا، الذين يحسبوا على الأسلوب الرهاوي هم ذاهبون وبسرعة إلى الإختفاء، أو أنهم قد إختفوا تماماً.
وأسلوب أهل بغداد والبصرى المتفرع من الموصلّي لم يبقى منه شيئاً يذكر لأنه اصبح اليوم جزءاً لا يتجزأ من أسلوب الموصل بعد أن ذاب فيه.
ولكن اسلوب سريان خربوت وبالرغم من قلّة عددهم وإنتشارهم في أنحاء العالم، قد حفظ من الإندثار، لكونه سجل وأصبح متوفراًعلى بعض مواقع الإنترنيت.
وكانت هناك أساليب إنشاد متعددة صغيرة موجودة ضمن جغرافية الأساليب السابقة الكبيرة وتدور في فلكها، وأغلبها ذابت فيها واختفت تماماً بسبب النزوح والهجرة والإختلاط لسريان هذه المناطق، والبقية الباقية من الاساليب هي محسوبة على الكبيرة لأنها بالأصل متفرعة منها ومصيرها أيضاً الزوال.

أسباب في إختلاف أساليب الإنشاد الكنسي:
لقد ورثنا أساليب الإنشاد الكنسي كما هي اليوم عليه من آبائنا وأجدادنا، كما ورثنا معها إختلافات لحنية وإنشادية، والكثير من أسباب هذه الإختلافات تعود لحركة التاريخ التي مرت بقساوتها على السريان وكنائسنا السريانية.
وهذه بعضٌ منها:
1- إن النصوص والأناشيد السريانية الكنسية لم تؤلَّف وتلحَّن في مدينة واحدة أو في مركز علمي واحد، ولا في فترة زمنية واحدة. لأنها أُلِفَت ولُحِنَت في مدن وأديرة مختلفة وفي أزمنة متفرقة.
وإن مسألة إعتماد الألحان والنصوص وقبولها في مراكز تعليم المدن السريانية المتفرقة ثم إنتشارها بين كنائسها لم تكن بالعملية السهلة.
2- الإعتماد على الذاكرة في تناقل الألحان شفهياً من جيل لآخر ضمن منطقة واحدة، وهذا أمر معروف ومتفق عليه.
فبالرغم من أن ذاكرة الشعب السرياني قد حافظت على الألحان السريانية لغاية الحين، لكن كان على هذا الشعب إيجاد سبل علمية ما لتدوين ألحانه الكنسية، لتجنب تعرضها للتغيير والضياع أو النسيان والإندثار. ربما كان السريان الأوائل قادرين على إختراع وسيلة معينة لتدوين الألحان لو شاؤوا ذلك، وكانوا سيحافظوا من خلالها على جسم الألحان السريانية من التشوهات التي طرأت عليها.
3- إبتعاد الكنائس والاديرة عن بعضها جغرافياً وصعوبة عملية نقل الألحان كما كانت عليه في الأصل بسبب إعتمادها على الذاكرة فقط في تناقلها، فأصابها ما أصابها من تغيّرات لحنية.
4- التصرف والإرتجال الذي قام به المنشدون من كهنة وشمامسة دون ضوابط موسيقية في آداء الألحان و طرق الإنشاد، أدى إلى زيادة التشوهات في بعض الألحان.
5- ضعف الكنيسة تاريخياً في عدم مقدرتها المحافظة على الألحان الكنسية بطريقة سليمة، وعلى عدم تفكيرها المحافظة والتقيد بأسلوب واحد في إنشادها.
6- العزلة التامة في تطور الألحان وإنشادها في كل منطقة سريانية منفردة عن الأخرى فأخذت قالباً مختلفاً وأصبحت ذات أسلوب مستقل بذاته عن الأساليب الأخرى.
7- تأثر إنشاد الألحان الكنسية في كل منطقة مستقلة بمحيطها الجغرافي الموسيقي. فلكل منطقة جغرافية موسيقاها العامة التي تتميّز بها، وتأثُر إنشاد الألحان الكنسية فيها أدّى إلى خلق مشكلة إضافية وسّعت هوة الإختلافات فيما بينها.
8- نصوص جديدة وألحان متعددة:
بعض المناطق السريانية المركزية ذات الأساليب الكبيرة في إنشاد البيث كازو، كان قد تم فيها عبر التدرج الزمني في تاريخ كنيستنا تلحين بعض نصوص الأناشيد القديمة مرة ثانية، أو تأليف أناشيد جديدة وتلحينها، لكن بمعزل عن بعضها البعض فكبرت الإختلافات أكثر مما كانت عليه، مما أدّى إلى تباعد الأساليب عن بعضها أكثر.

إن ظاهرة تأليف النصوص وتلحينها كانت قد كثرت في كنائسنا السريانية في المشرق والعالم بعد منتصف القرن العشرين، وبإستقلالية كل منطقة عن بقية المناطق الأخرى ودون العودة إلى مرجعيات مراكز التعليم كالاديرة والإكليريكيات لنشر هذه الأناشيد (الألحان الجديدة)، مما ساهم اليوم في توسع الإختلافات القائمة بين الأساليب وفي تباعدها أكثر فأكثر عن بعضها.
فمثلاً أسلوب أهل الموصل يملك اليوم ألحان وحتى أناشيد مستقلة خاصة به وإن كان عددها قليل، وكذلك الأمر في أسلوب أهل صدد، وتماماً مثلما حصل مع الأسلوبين الرهاوي والمارديني اللذين لم يتوقف لديهما التأليف والتلحين لغاية اليوم، فأصبح كل أسلوب يملك عدداً قليلاً من الألحان الخاصة به لا يعرفها أهل المناطق أو الأساليب الأخرى.
وتبني كنائس سريانية كثيرة في العالم ترانيم جديدة بالعربية استعارتها من كنائس شقيقة شرقية قديمة وحديثة، فتخلت عن جزء من تراثها السرياني وادخلتها في طقوسها وقداديسها بعذر أن الشعب لا يفهم السريانية الكلاسيكية فوسّعت الهوة فيما بينها.
والنتيجة إن عدم وجود مراكز موسيقية في الكنيسة السريانية أو معاهد خاصة في عصرنا هذا تهتم في جمع وحفظ الألحان الكنسية وتعليمها وتطوير أساليب تعليمها ونقلها ونشرها بين كنائسنا عالمياً، يساهم مساهمة كبيرة في تعميق مشكلة الفروقات في الألحان وفي طرق إنشادها بين مختلف الأساليب، وفي عدم الحفاظ على خصائص وقوالب ألحاننا واساليب آدائها من الضياع والزوال.
لهذا ندعو القائمون على العمل الكنسي أن يؤسسوا معاهد تهتم بجمع وحفظ الألحان الكنسية وبتدريسها بطرق ووسائل عصرية، وإقامة دراسات موسيقية حولها لمعرفة كل حيثياتها وما تتميّز به من صفات موسيقية سلبية كانت أم إيجابية، لأجل تناقلها وإنتشارها عالمياً لتأهيل أجيال مستقبلية.
إن رؤيتنا في تعدد الأساليب المختلفة، وبالرغم من أساسها قائم على الخطأ، هي المحافطة عليها، لأنها جزء هام من تراثنا الثقافي الذي نعتز به، وعلينا الحفاظ عليه. ولكن أمنيتنا هي أن تجمع وتدرس ويخلق منها أسلوب واحد فقط يكون معتمداً في جميع كنائسنا السريانية في العالم. وهذه الحالة تشبه تماما حالة تعددية الكنائس السريانية المشرقية بكل مذاهبها التي إنبثقت من الكنيسة الأم الأولى، وهي حالة غير صحية حسب رأينا. فنتمنّى لهذه الكنائس أن تتحد في كرسي بطريركي واحد لأن في الوحدة قوة وثبات للمسيحية في المشرق، ولكننا في نفس الوقت نريد أن نحافظ على تراث كل كنسية بشكل مستقل، لأنه تراثنا التاريخي الاصيل الذي بقي متداولاً لهذا اليوم والذي نفتخر فيه عالمياً.

ويتبع في الجزء العشرين

أخوكم: أبن السريان

موقع نسور السريان
أضف رد جديد

العودة إلى ”منتدى أدب و فنون السريان“