الآراميون في التاريخ- الإقتصاد الآرامي

المشرفون: ابو كابي م،مشرف

صورة العضو الرمزية
henri bedros kifa
مشرف
مشرف
مشاركات: 273
اشترك في: الأربعاء مارس 31, 2010 8:36 am

الآراميون في التاريخ- الإقتصاد الآرامي

مشاركة غير مقروءة بواسطة henri bedros kifa »

الأب المؤرخ ألبير أبونا
الناحية الاقتصادية

سلطنا بعض الأضواء على الأوضاع العسكرية لدى الأقوام الآرامية، بقدر ما أتاحت لنا مصادرنا ذلك. وتوصّلنا، بالمقارنة مع الأمم والدول الأخرى، إلى اكتشاف ما تميَّز به الآراميون على الصعيد العسكري. وقلنا، ونكرّر دوماً، إن تعدًد الدويلات الآرامية لم يولِها قوةً كافية لمجابهة خصومهم الطامعين في خيرات بلدانهم وثرواتها.

ونحاول الآن، وقد أشرفنا على نهاية هذه السلسلة من المقالات، أن نتطرق إلى ناحية أخرى مهمة من حياة الآراميين، وهي الناحية الاقتصادية.

الإقتصاد الآرامي

المصادر وحدودها

هنا أيضاً تحول قلة مصادرنا وضعف تحاليلنا لثقافة الآراميين المادية، دون تقديم معالجة وافية لحياتهم الإقتصادية. في الوضع الحالي، يتعلق ا ّ طلاعنا على الاقتصاد الآرامي بالنصوص القديمة، ولاسيمّا

بالنصوص الآشورية. فإن مقاطع الكتابات الملكية تزوّدنا بلائحة واردات الغزو هدايا خاصة (نامورتو)، الجزية (بيلتو مدّاتو)، الغنيمة (شلّاتو) المنتزَعة من ضحايا الحماية أو الإعتداء على الآشوريين، وذلك بعبارات مقبولة، إلا أنها ذات أهمية عظيمة، لأنها تعكس اختلافات البيئة والثروة، والثقافة أيضاً إلى حدٍّما، بين البلدان المسهِمة في خدمة.

إن حوليات توگولتي نينورتا الثاني ( ٨٩٠ - ٨٨٤ ق. م.) توفر لنا فائدة كبيرة، إذ تُطلعنا على عالم آرامي ما يزال سليماً بعد، وهي تزخر بالتفاصيل النفيسة عن طبيعة الخيرات الحاصلة وعن كميتها. إلا أن غزوات هذا الملك لم تتجاوز حوض الخابور. ومنذ القرن الثامن، بنوع خاص، تصبح حوليات خلفائه شحيحة بالأحرى في الإشارات العددية، وهي تخلط غالباً في مجموعة واحدة الثروات الحاصلة من عدة دول متميّزة عن بعضها. وإلى هذا النوع من المواد، نضيف الكتابات الآرامية التي غالباً ما قد التقيناها، وكذلك لوائح المُلكيات والوثائق الشرعية والتجارية التي تبيّن الحياة اليومية في العصر الآشوري الحديث.

ولا بد من أن القارئ سيلاحظ الحدود المفروضة بهذه المصادر، فلن يبحث في الصفحات الآتية سوى عن سلسلة محاولات موضوعها شهادة بعض المهن والزراعة وتربية المواشي، والموارد المعدنية واستغلالها، وبعض أمثلة عن التجارة الدولية.

المهن التي مارسها الآرامیون

كانت حياة الآراميين الثقافية والاقتصادية ترتكز حتماً على عمل مهنيين عديدين : فلاحين، بستانيين، معماريين، معدّنين، خزّافين، نجّارين، حاكة، دبّاغين، صاغة، موسيقاريين، ...إلخ والنصوص الآرامية العائدة إلى العصر الحديدي المنشورة حتى الآن حُفظت لنا، بنوع خاص، عناوين تعود إلى البلاط والإدارة. وقد يسعنا أن نعيد بناء المصطلحات الآرامية القديمة للمهن، انطلاقًا من العبرية والفينيقية أو الأكدية، والتدمرية أو النبطية والسريانية والآرامية البابلية المتأخرة. إلا أن تمرينًا معجمياً مثل هذا لن يعّلمنا شيئًا عن الأحوال الإقتصادية في العصر الحديدي.

وريثما تُن َ شر ألواح منطقة حران العائدة إلى القرن السابع، والمحفوظة في العاصمة البلجيكية، فإن المهن المجزية لا تُذ َ كر إلا بالأكدية، في النصوص الإدارية ووثائق الأعمال الآشورية. وبين هذه الأخيرة، كثير من الآراميين مصنَّفون مثل مزارعين (ايكارو ايّكاروِّ)، وبستانيين (نوكاريبّو)، أو رعاة (ريعو ريّعوِّ). وغيرهم مصنَّفون مثل اختصاصيي الحديد. وهناك وثائق تتمحور حول الخدمة في البلاط، وهي تذكر آراميين مكلَّفين بمهمات كان في وسعهم أن يمارسوها في بلدانهم. وهكذا فإن شخصاً اسمه "زكور" كان صائغًا (نبّاح حوراصي نٍبِاح حوِّرِاؤيّ)، وآخر اسمه "عبدا" أو "عبداي" كان إسكافياً (اشكابو)، أو بتعبير أد ّ ق "كان إسكافياً آرامياً". وهذا ما قد يشير، مثلما في حالة "كتبة آراميين"، إلى تخصّص عرقي بهذه التقنيات. وبقايا أضابير قلعة شلمناصر في "كالحو" (نمرود) تذكر أيضاً موسيقاريين (زمّارو) آراميين، من الرجال والنساء. ولاسيمّا موسيقاريات من "أرباد". وتبرز أسماء آرامية عديدة بوضوح بين التجار (تمكارو) الآشوريين الحديثين، مثل بر شمش، رحيم أددميلكي. ويمكننا الافتراض أن العدد الكثير من الآراميين الذين كانوا يمارسون آنذاك هذه المهنة يعكس إلى حدّ ما الانطلاقة التي كانت التجارة قد اّتخذتها في الدول المستقّلة.

وفي العهود الآشورية الحديثة أيضاً، كثير من الرجال الذين تعّلموا مهنًا أخرى سيكون وجودهم مرتبطًا بالزراعة في الممتلكات الواسعة. فهناك، على سبيل المثال، حائك قديم، وهناك موسيقاري قديم.

من الصعب أن نقيمّ أهمية المهن الأخرى بالنسبة إلى السكان العاملين في الزراعة وفي البلدان الغنية بالمعادن، وفي الدول الشهيرة بالتجارة، مثل دمشق والفدرالية الواقعة عند مصب نهر الخابور، أو بنوع أعمّ، في البلدان التي فيها مراكز مدينة كبيرة حيث كان في وسع قسم كبير من السكان أن يعكفوا على أعمال تختلف عن الزراعة.

ما عدا القصور الملكية والمخازن والمعابد، من الصعب تشخيص المباني الأخرى المخصّصة بمختلف الأشغال. فإن جزءاً كبيراً من الفخاريات والأثاث والأنسجة والثياب والأدوات الضرورية للزراعة، كان من صنع منزلي. وإذا كانت غزارة المواد الأولية لا تدفع إلى تنمية الصناعات المتناسبة، فإن الخيرات التي كانت تتطلب أيادي عاملة مختصة، كان يمكن استيرادها. إلا أن الإنتاج المحلي لمواد عديدة، مثل الأسلحة وبعض الأدوات، كان ذا نفع حيوي لكل أمة مستقلة، ومنافسة الدول الكبيرة المستقلة كانت تطالب بممارسة تنوّع كبير من مَهَمّات الإنتاج في كل موضع من العالم الآرامي.

الزراعة

المناطق الزراعیة ومناطق تربیة المواشي

كانت الأمطار الكافية تتيح عادة لمعظم الشعوب الآرامية المعروفة في خانيكالبات، وفي الخابور الأعلى والبليخ، وسوريا الشمالية، ووادي الاورونت، والجبال التي تفصله عن البحر المتوسط - بأن تعكف على

الزراعة غير المروية. إلا أن الري كان مستعملاً في مناطق حماة ودمشق، وكذلك في أراضي الخابور الأسفل ووادي الفرات، إلى الحدود الحالية بين سوريا والعراق. وبالعكس، كانت تربية المواشي تحتلُّ موضعاً أساسياً في اقتصاد القبائل الساكنة في الطرف الغربي من الصحراء السورية وفي الأراضي المحيطة بالفرات الأوسط وبلاد بابل. وقد أُشير إلى أن عدداً كبيراً من الآبار قد حُفرت في تلك الصحاري القاحلة من الفرات الأوسط، وكانت توفر المراعي في تلك المنطقة طوال السنة. أما تربية المواشي التي كانت القبائل الآرامية تقوم بها، فكانت بمثابة تكميل لثقافة ذلك الشعب الحضري القديم. وحينما استولى الملك سرجون الثاني على البلدة الكمبولية ” دور اتخارا “، الواقعة على المجرى الأسفل من نهر دجلة، كانت غنيمته تتوقف كلها على الخيل والبغال والحمير والجِمال والثيران والغنم. ويفتخر سنحاريب أيضاً بأنه استولى على ١١٠٧٣ حماراً، و ٥٢٣ جملاً، و ٨٠١٠٠ ثور، و ٨٠٠٦٠٠ رأس غنم من آراميي بابل في حملته الأولى. والمصادر المباشرة لا تطلعنا على الحليب ومنتوجاته التي لم تكن صالحة للتصدير. إلا إن المماثلة مع إسرائيل والأرقام التي ذكرناها لا تدع أي مجال للشك في أهميتها للاقتصاد الآرامي.

زراعة الحبوب

إن المصادر الهزيلة التي في حوزتنا لا تُقابَل بالمصادر التي تسّلط الأضواء على الموارد الغذائية في العصر البرنزي. ومع ذلك يمكننا أن نتأكد من أن في سوريا الغربية بخاصة، كان اقتصاد المناطق الصالحة للزراعة يهيمن عليها ثلاثي البحر المتوسط: الخبز، وزيت الزيتون، والخمر. وفي نهاية الحقبة التي نتطرق إليها، تُظهر المصادر المكتوبة تفوّقَ زراعة الحبوب في منطقة حران الواسعة. وفي النصف الأول من القرن الثامن، كان "باناموا" ملك سمأل يفتخر بالشعير والحنطة والكرّاث التي كانوا يحصدونها في عهده. والشعير هو الذي يظهر في الأغلب في المصادر. ويجب التفكير في هذه الغّلة بنوع خاص حينما تروي النصوص الآشورية مصادر الحبوب والخبز والتبن في الأراضي الآرامية.

مزارع القرن السابع

في نحو منتصف القرن السابع، كان كبار الم ّ لاكين من العصر الآشوري في البلاد التي كانت آرامية من قبل، يضعون عادة عائلة مكوِّنة من أربعة أو خمسة أشخاص على أرض زراعية تُقدِّر مساحتها بين ٤٠ إلى مئة هكتار. وكان جزء من هذه الأراضي يُترك للاستراحة كل سنة. وكان في حوزة العاملين بعض حيوانات الخدمة (ثور أو ثوران، وأحيانًا بضعة حمير) ومنزل أو منزلان، وحظيرة وبيدر وبئر (تكون أحيانًا مشتركة مع الجيران) وبستان صغير للفواكه والخضراوات. وليس لدينا معطيات لكي نحدّد متى وكيف استقرت هذه الأحوال.

الزیتون

كان زيت الزيتون معروفًا منذ أزمنة موغلة في القدم في المناطق السورية. وقد جاءت شهادة عنه في "إيبلا" قبل أي موضع آخر. وبعد ذلك صار الزيتون أهم المزارع في "أوغاريت". وفي العهود الرومانية والبيزنطية، كان استثماره سيهيمن على الاقتصاد في المرتفعات الكلسية الواقعة شمالي "أفامية".

إلا أن زيت الزيتون لا يظهر إلا هامشياً في الكتابات الآرامية من العصر الحديدي. لكن الشهادة الوحيدة التي وردت عنه على تمثال "باناموا" ابن برصور مهمة، إذ يظهر فيها هذا الزيت مثل مادة أساسية يتحكم سعرها في الاقتصاد. ولا ينبغي أن نشك في دوره الحاسم في سوريا، ولو أن الكتابات الملكية المنشغلة بالسياسة والدين لا تهتم بمنتوج اعتيادي مثله.

للمناطق الشرقية من العالم الآرامي، تحمل لوائح المصادرات الآشورية ذكر زيوت صافية (شمنو طابو شٍمنوِّ طِابوِّ) أُخذت من تجار"لاقو" في الفرات الأوسط. وهذا يعني أن الزيوت الفاخرة كانت موضوع التجارة الجارية، كما كان الأمر في السابق، في عهد ازدهار "ماري". ولا نشك أيضاً في أن الناس في بلدان الفرات الأوسط وفي بلدان بين النهرين كانوا يستعملون عادة زيت السمسم بدلاً من زيت الزيتون الذي كانت شعوب البحر المتوسط تستعمله.

النخیل

لا يبدو أن النخيل وتمورها المتنوعة أصنافها كانت عاملاً مهماً في اقتصاد الدول الآرامية الغربية. فكان استغلال النخيل بكثرة نموذجياً في البلاد البابلية، ولم يمتد إلى الشمال الغربي أبعد من مدينة "عانه" في سوحو. ومع ذلك، فإننا نرى في نقش بارز من "غوزانا" أن النخيل يُستثمر حتى خارج هذه المنطقة.

الخمر والجعة

لقد وردت شهادات عديدة عن الخمر وعن زراعة الكروم في الجزء الغربي من سوريا في العصر البرنزي، كما هو الشأن في "إيبلا"، منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وفي وقت لاحق في "الالاخ" و"ايمر" و"أوغاريت". ويكون من المدهش أن تعكس هذه الحال في العصر الحديدي، لأن الدول الآرامية في سوريا كانت مدينة بثقافتها كثيراً للحضارة الحثية - الحديثة، حيث كان إله العاصفة يسهر بنوع خاص على الكروم. في الواقع، كما كان "كانواس" ملك كركميش يفتخر بغزارة الخمر في عهده، كذلك كان ملك سمأل يبتهج إذ يرى أن شعبه يزرع الكروم. وأحيقار الحكيم، شأن حكماء الكتاب المقدس، كان يفكر في استعمال الخمر (حَمر - حٍمر) إلا أن الجنود كانوا يجهلون هذه الأمور الدقيقة. وهناك نقش يحمل صورة كرمة من البرنز في بلاوات في عهد الملك شلمناصر الثالث تمّثل حراساً يحيطون بجرّة كبيرة من الخمر أخذوها من الأورارتيين. ولا بد أن القوات الآشورية كانت تملأ بطونها في كل مكان من الاحتياطيات المحلية، شأن كتائب يوليوس وهي في طريقها إلى

"فرسال" ١.

إن الضرائب الآشورية تمسّ المقاطعات الآرامية الشمالية الواقعة في خانيكالبات، من بيث زماني إلى غوزانا، بين الخابور الأعلى والفرات (أزاّلو، أشو، سروج، تل أبني) وفي الشمال الغربي من سوريا (بيث أديني، بيث أغوشي). وفي القرن الثامن، جاءت شهادة عن الخمر، عِبر الأردن بالكتابة الدينية في دير "ع ّ لا". فإضافةً إلى شهادات عديدة يمكننا التقاطها في إسرائيل، تسهم هذه الشهادة في تسليط الأضواء على استخدام الخمر في الجزء الغربي من الهلال الخصيب كله.

وبالنظر إلى ندرة المعطيات، وأن مؤرخي الملك توگولتي نينورتا الثاني، الذين هم أد ّ ق المؤرخين، قد لاحظوا مصادراته للبيرة (الجعة)، فقد تراودنا التجربة في رفض كل معنى لصمت الملوك الآشوريين الآخرين والكتابات الآرامية. ومصادرنا الهزيلة تتيح لنا مع ذلك أن نرى فصلاً جغرافياً واضحاً بين الخمر والجعة. في بلدان الفرات الأوسط التي تكوّن امتدادًا لبين النهرين، في سوحو وهيندانو ولاقو، يجد توگولتي نينورتا جعة في كل مكان، ولكنه لا يشير قط إلى الخمر. وبالعكس فإن المصادر الأخرى، التي أوجزناها في موضع سابق، تشير إلى وجود الخمر في الشمال والغرب، عند الآراميين كما عند الحثيين الحديثين، ومثلها في فلسطين، ولكنها لا تشير قط إلى الجعة. الفرق الوحيد الذي وجدناه بين المنطقتين هو ذكر خمر سوحو في العهود البابلية الحديثة، ولا يتعلق الأمر هنا ببلد آرامي بصورة رئيسية.

ولكننا قد نتساءل هنا ألا يكون هذا الفصل بين منطقة الخمر ومنطقة الجعة مجرد خدعة البصر؟ فنحن نعرف انه، إذا كان مناخ التلال الشمالية أفضل للكروم من مناخ الفرات الأوسط ومن البلاد البابلية، فإن غزارة الشعير أتاحت، في العصر البرنزي، إنتاج الجعة بكميات أوفر بكثير من الخمر، حتى في البلدان المنتجة للكروم. ففي سوريا، كما في البلاد البابلية، كان استعمال الخمر يجري في بعض الظروف المحدودة، مثل الاحتفالات وغيرها، في حين كانت الجعة الشراب اليومي للجميع. فهل احتفظ استعمال الجعة بشمولية حتى في العصر الحديدي، وأن عدم ذكرها في سوريا الشمالية والغربية قد يكون نتيجة تفاهتها، أو أن الأمر يُنسَب إلى هزالة الوثائق؟

الأبقار والمواشي

إن الأبقار والمواشي هي أنواع الحيوانات الاعتيادية في مصادرنا المكتوبة، من ضمنها الكتابات السامية الغربية. وهذا العنصر المهم في الاقتصاد لا ينحصر في منطقة محدودة. وإذا ما استثنينا منطقة "بيث زماني"، التي صادرَ آشور ناصربال الثاني، في سورة غضبه، جميع أبقارها، فإن المواشي التي أخذها الآشوريون هي عشر مرات تقريباً أكثر من الأبقار، في البلدان الآرامية، كما في البلدان الحثية الحديثة. وهذا ما يطابق المعطيات المكدّسة في الأزمنة العصرية.

الخنزیر

إن الخنزير، الذي قد يكون استهلاكه في البيئة السامية أقلَّ ندرة مما اعتقده البعض، ما يزال غير مذكور بكثرة عند الآراميين. وحيثما تتيح لنا إشارات علم العظام عند الآثاريين إجراء بعض المقارنات، يظل استعمال

الخنزير أقلَّ بكثير من استعمال لحوم المواشي والأبقار.

مهما يكن من أمر، فإن استعمال اللحوم كان قليلاً في تلك العصور. فنلاحظ أن استهلاك اللحم، خارج الإحتفالات الدينية، كان من الأرجح استثنائياً عند الآراميين، كما عند الشعوب المجاورة لهم. وان الملك آشور نراري الخامس، في شرحه الطويل لملك "أرباد" للذبح الرمزي لخروف يتضمن تهديداً، يشدًد على أن الخروف لم يُنتزَع من الحظيرة لأي نوع من العيد، ولا لغايات تجارية.

الخیل

في النصوص الآرامية العائدة إلى العصر الحديدي، التي تذكر الحصان، إنما أهميته العسكرية هي في الأولوية. من المؤكد أن كل رئيس سلالة كان له اصطبله الخاص. إلا أن تربية الحصان والبغل كانت تجري في الأراضي المرتفعة، عند منابع الأنهار الكبيرة. وكانت منطقة "اورارتو" شهيرة بمرابضها وخيولها. وكانت تابال وتيان ودول أخرى من طوروس تزودّ الملك سرجون الثاني بالخيل والبغال. ونصبُ تغلاثفلاصر الثالث الذي اكتُش َ ف في إيران يحتوي على لائحة مفصلة من استلام الخيل (أكثر من١٥٠٠ رأس) من الماديين. وقد تكون منطقة "بيث زماني" هي المصدِّرة الوحيدة للخيل بين الدول الآرامية. إلا أن دور هذه البلاد الصغيرة كان متواضعاً حتماً.

إن إمارة "بيث زماني" والإمارات المجاورة لها (نيربو ونيردون) هي البلدان الآرامية الوحيدة التي منها استطاع الغزاة الأولون (الآشوريون الحديثون) الحصول على بغال. ومثال البلدان الشرقية الأخرى والحقب الأحدث تؤ ّ كد لنا مع ذلك أن الحمار كان أكثر استعمالاً، ولو أن الوثائق التاريخية من العصر الحديدي لا تقيم وزنًا لذلك. ولا عجب إذا ما ظهر هذا الحيوان في ثلاثة أو أربعة من أمثال أحيقار الحكيم. وهو يحتلُّ أيضاً موضع الشرف في نقش بارز تهكُّمي من "تل حلف"، ويبدو انه دابة للخدمة محمّلة بجرَّتين تمّثلان الطين المفخور من زنجرلي (سمأل). وهو أيضاً غالباً ما يظهر مثل حيوان للمزرعة. وهناك ثلاث ملاحظات، تبدو لأول وهلة تافهة، لأدد نراري الثاني وتوگولتي نينورتا الثاني، في شأن بعض الحمير التي استولوا عليها في مطلع القرن التاسع قبل الميلاد. ولكنها تأخذ معنى أفضل حينما نتحقق من أن الأمر يتعلق كل مرة بالمنطقة نفسها، وهي منطقة "سيرقو" (ترقا قديماً) وهيندانو، على الفرات الأوسط، نحو سافلة مصب الخابور، وستتأكد أهميتها للتجارة الدولية.

الجِمال

إن ذكِر الجمل في العالم الآرامي يشبه الملاحظات التي ذكرناها عن الحمير في الفرات الأوسط، ويوضح الموقع الممتاز الذي كانت هذه المنطقة تحتّله في قلب تجارة القوافل. ومصادرنا عن هيندانو ترينا الاجتياز من جمل بكتريانا (ذي سنامَين) إلى الجمل الآتي من البلاد العربية (ذي سنام واحد). وفي مطلع القرن التاسع، كان الملك توگولتي نينورتا الثاني وآشور ناصربال الثاني قد تلقيا جِمال بكتريانا من هيندانو. ولكن في القرن التالي، أصبح الجمل (ذو سنام واحد) أكثر شيوعاً في العالم الآرامي.

وكان هذا الحيوان معروفًا في الشرق الأدنى منذ عهد بعيد. ففي سنة٨٥٧ ق. م، كان شلمناصر الثالث قد استولى على جِمال عند احتلاله "دابيكو" في "بيث أديني". وكانت جِمال العرب "جينديبو" قد اشتركت في معركة قرقر سنة ٨٥٣ . إلا أن انتشار هذا النوع من الحيوان في العالم الآرامي لا يرقى دون شك إلى فترة تسبق تدّفق التجارة من البلاد العربية. وتتكلم حوليات "سوحو" في نحو سنة ٧٧٠ عن الاستيلاء على مئتي جمل من إحدى القوافل. وبعد هذا التاريخ بربع قرن، سيرد ذكر الجِمال في مراسلة "نيبور" التجارية التي تظهر لنا تجار هذه المدينة في علاقة مع "هيندانو". وهناك رسالة آشورية تذكر ستين جملاً (إبلاً) مفروضة على سوحو. وهناك أيضاً شهود آخرون يؤكدون شعبية هذا الحيوان، في البلاد الآرامية، كما عند الآشوريين.

الدواجن

إن البط والوز هي الطيور الدواجن الوحيدة التي تربطها الحوليات الآشورية بالأراضي الآرامية. ويرد ذكرها في منطقة الفرات الأوسط، وفي سوريا الشمالية وفي حماة.

لا شك أن الناس كانوا يربون الحمام أيضاً، هذا الطير الذي وُضع منذ زمان طويل في علاقة مع الألوهات المؤنثة، والذي كان معروفًا جيداً في أوغاريت. إلا إن تربية الحمام في البلاد الآرامية لم يرد لها ذِكر في النقوش، ولا ذِكر للدجاجة أيضاً التي وجودها مثبت أكثر فأكثر في غرب الأردن. وفي نحو سنة ٧٧٥، تجدر الإشارة إلى حماس "شمش ريش أوصور" زعيم سوحو، الذي يفتخر بأنه أدخلَ تربية النحل إلى بلاده، انطلاقًا من "حبحو" الشمالية. وبما أن سوحو في استمرارية مباشرة مع الأراضي الآرامية، فإن هذه الشهادة تحدونا إلى التفكير في أن هناك أيضاً لم يكن العسل إلا سلعة نادرة، ينتزعها الناس من النحل البري.

المعادن

ملاحظات أولیة

في اللوائح الآشورية - الحديثة للغنيمة والجزية، تحتلُّ المعادن دوماً المكانة الأولى. وتُظهر هذه الوثائق الأهمية التي تّتخذها في نظر الآشوريين الاحتياطيات المكدَّسة لدى الدول الأخرى، وعدم التساوي الذي تكشف عنه يشير إلى الجغرافيا الاقتصادية للعصر الحديدي. وسوف ترتكز اللوائح الآشورية أكثر فأكثر على الذهب والفضة. إلا أن المعادن الأخرى واردة بكثرة في وثائق القرن التاسع، وهي تزودّنا بإشارات نفيسة.

إلا أن تقييم هذه النصوص محفوفة بالفِخاخ. فلكي نستغّلها بصورة معقولة، علينا أن نعرف أن نميّز "هدية خاصة" من ضريبة سنوية، أو من أسلاب لا تعرف الحدود، مثل أسلاب كركميش أو مصاصير على يد سرجون الثاني. علينا أن نقيم وزنًا للازدياد الدائم في مقتضيات الإمبراطورية ٢. وعلينا أن نكون واعين بالصمت الطارئ في المصادر. فحينما نتعامل معها بحذر، في وسع هذه المصادر أن تُطلعنا على الموارد المعدنية الموجودة في كل بلد، أو تلك التي كانوا يستطيعون البلوغ إليها. وبالرغم من شحة الاكتشافات الآثارية، فهي تتيح لنا أن نستشفَّ النشاطات المعدنية التي كانوا يمارسونها. إنها قد تُفهمنا أكثر القدرة التجارية أو العسكرية لدى بعض الدول.

الذهب

كان على كل ملك من العصر الحديدي ان يكدّس خزائن من الذهب والفضة. وكثيرون منهم كانوا يفلحون في ذلك، ولو على درجات متفاوتة في شأن الذهب. فنلاحظ أن الغالبية العظمى من الدول الآرامية لم تكن تسّلم إلى الآشوريين سوى كميات متواضعة جدًا لا تتعدى أمنانًا قليلة ٣، وحتى إذا انتهت دول غنية مثل "طبال" و"كركميش" إلى نوع من الفقر، فانها كانت مع ذلك تنتج كل منها أكثر من ١٠ وزنات. وبالعكس، فإن أدد نراري الثالث، في نحو سنة ٨٠٠ ينتزع عشرين وزنة ذهباً من دمشق، أو في الأقل ١٠ وزنات، بحسب تقرير آخر. ويمكننا أن نقابل مع هذه الأرقام ١٥٠ وزنة انتزعها تغلاثفلاصر الثالث من صور، بحسب قوله، و ٣٠ وزنة جلبها من "أرباد"، و ٣٠ وزنة يكون سنحاريب قد حصل عليها من حزقيال ملك يهوذا.إن هذه المعطيات تحدونا إلى التفكير في أن الدول المرتبطة بالبلاد العربية الجنوبية عن "طريق الملك"، مثل دمشق ويهوذا، أو تلك التي لها منافذ على منتجي الذهب عن الطريق البحري، مثل صور، كانت تنعم بامتياز أكيد تجاه الدول الواقعة في الشمال أو في الأراضي الداخلية من البلاد.

الفضة

لم تكن الفضة أغزر فحسب، بل كذلك أكثر انتشاراً في البلدان التي غزاها الآشوريون. وكانت دمشق وأرباد هما من جديد الأفضل حظًا بين الدول الآرامية. فإن تغلاثفلاصر الثالث جلب من أرباد ٢٠٠٠ وزنة من الفضة. أما دمشق، فان المتناقضات الكبيرة الموجودة بين كتابات أدد نراري الثالث تجعل من المستحيل أن نكوّن لنا رأياً ثابتًا في الموضوع. فعلى سبيل المثال، يذكر نصب "الرماح" ٢٠٠٠ وزنة، ونصب سباعة ١٠٠٠ وزنة، وبلاطة كالحو (نمرود) ٢٣٠٠ وزنة! فما عدا يهوذا حيث سّلم حزقيا ٨٠٠ وزنة فضة إلى سنحاريب، فإن أهم نقطة مقارنة تقدّم لنا في الدول الحثية الحديثة، حيث سلمت كركميش وحدها أكثر من ٢١٠٠ وزنة فضة إلى سرجون الثاني حينما تم تدميرها.

أما أصل هذا الغنى في كركميش، فقد يكون مردّه الوثاق، الذي كان يربط ما بين البلدان الحثية الحديثة وبلاد الأناضول المعروفة بمناجمها الفضية منذ أقدم العهود الآشورية. وفي حالة دمشق، كما في حالة يهوذا،

نستطيع التفكير مرة أخرى في واردات "طريق الملك". ولكن هنا مثلما للمعادن الأخرى التي سنتطرق إليها كان سبب ارتفاع علامات دمشق ناتجاً عن القدرة التي نعمت بها هذه المملكة طوال القرن التاسع، ولاسيمّا من غزوات "حزائيل".

الحدید

حينما بدأت الحملات الآشورية الحديثة، كان وجود احتياطيات الحديد أندر من وجود احتياطيات النحاس والقصدير عند الدول المجاورة. وتوزيع الحديد بين الآراميين جدير بالإهتمام، لأن هؤلاء ينقسمون في هذه

النقطة إلى ثلاث فرق متميزّة جداً:

أ توجد كميات مهمة في الدول الشمالية الغربية الآرامية، مثل بيث زماني وشوبرو في نائيري، وياحان، وسمأل. وهذا الركام يجد شرحه بجوار مناجم أمانوس وطوروس التي تشرح أيضاً غزارة الحديد في كركميش وفي الدول الأخرى الحثية - الحديثة.

ب في نحو سنة ٨٠٠ ، ذُكرت كمية من الحديد أهم بكثير في دمشق في الضريبة التي انتزعها أدد نراري الثالث من "ماري". لا شك أن البرنز كان ما يزال مستعمَلاً عند الجيوش. ولكن قبل هذه النكسة اللاذعة على أيدي القوات الآشورية، فإن الكمية الكبيرة من الحديد التي كانت في حوزة ملوك دمشق، كانت تسهم في قدرتهم العسكرية. وكان على هذه القدرة من جهتها أن تضمن لهم السيطرة السياسية على جزء من مواردهم المعدنية، التي علينا ولا شك أن نبحث عنها من جهة لبنان. وقدرة الشراء التي كان يوليها موقعهّا كمركز رئيسي للقوافل في غربي الصحراء السورية لا تكفي لتقييم غناها بالحديد، كما نستطيع أن نرى كميات أقل من هذا المعدن كانت تتوفر لدى الإمارات التجارية من الفئة التالية.

ج على مستوى أوضع، كان للدول الصغيرة في الخابور الأسفل أيضاً احتياطيات حديد لا يستهان بها. وفيما يخص هذه الدول، كان هذا الأمر مترتباً على القيمة التجارية لهذا المعدن، كما هي الحال بالنسبة إلى بضائع أخرى كثيرة كانوا ينتجونها هم. فإذا كان حضور احتياطيات حديد في بعض الدول يُشرَح بنزعاتهم الحربية وطموحاتهم التوسعية، ودورهم في التجارة الدولية أو لسهولة الحصول على هذا المعدن، فإن غيابه في مواضع أخرى قد يكون من جراء هذا الأمر، وهو انه حيثما كان نقص في المعادن والمحروقات، ظلت قيمة الحديد متساوية أو أعلى من قيمة البرنز طوال العصر الحديدي الثاني.

البرنز و مكوناته

طوال الحقبة التي نعالجها الآن، كان الناس يولون البرنز قيمة كبيرة. ومعظم الدول كانت تحفظ احتياطيات النحاس والقصدير، هذه المعادن التي كانت تدخل في هذا المزيج بنسب متغيرة. ولقد رأينا أن البرنز كان ما يزال يُستخدَم لصناعة الأسلحة، جنباً إلى جنب مع الحديد، وأن الكتابات الآشورية تذكر هدايا أو ضرائب من البرنز والنحاس والقصدير، أكثر من ذكرها ضرائب من الحديد. صحيح أن إعداد آنية بّراقة، كان الأمراء فخورين بتكديسها في قصورهم، أصبح شيئًا فشيئًا الاستعمال الرئيس للبرنز ومكوناته.

التوزیع

إننا نلاحظ عدم مساواة كبيرة في توزيع هذه المعادن. فبألف وزنة من البرنز، كما يؤكد أدد نراري الثالث في كتابته في "الرماح" انه أخذها من دمشق (وكم بالأحرى ٣٠٠٠ وزنة كما تشير إلى ذلك كتابة كالحو)، كانت هذه المملكة تتفوق بكثير على سائر البلدان الأخرى. ولكن من الغريب أن نجد بيث زماني الصغيرة (حول مركز ديار بكر) تقريباً على قدم المساواة مع باتينا الغنية (سهل أنطاكيا والبلدان التي تليه) وتتبعها من بعيد "سورو" من بيث حالوبي.

ولكن علينا أ ّ لا نبالغ في إطراء ثروة بيث زماني الحقيقية. فإن تاريخ النقمة، حيث يذكر آشور ناصربال الثاني غنائمه بالتفصيل، يذ ّ كرنا بسلب همجي ومن ّ ظم. فإذا استطاع الغازي أن يستحصل هذه الكمية من النحاس والقصدير والبرنز من بيث زماني، فلا بدَّ انه استولى على كل شيء. ومع ذلك فإن هذه المعادن كانت هناك، والحالة الجغرافية لبيث زماني كانت تتيح لها البلوغ إلى مناطق منتجة لهذا المعدن.

المصدر

أين كانت هذه المناطق؟ فما كانت بيث زماني تقدر أن تتلقى نحاسها من قبرص التي كان عليها ان تموّن "باتينا". ربما نفكر بالأحرى في المناجم المهمة الواقعة في "ارغاني مادن" الكائنة على نحو ٥٠ كم إلى الشمال الغربي من آمد (ديار بكر)، باتجاه "الازيج"، هذه المناجم التي كان عليها أيضاً أن تغ ّذي مصاهر دول مجاورة، مثل "كومّوخ".

أما القصدير، فقد يترتب علينا أن نختار، مبدئياً، بين مناجم "بولقرداغ" في السفح الشمالي الغربي من قيليقية، والمصادر الأفغانية البعيدة، مع مسيرة طويلة عِبر إيران وبين النهرين. ولكن في غياب شهادات مكتوبة عن النشاط المعدني في بولقرداغ في العصر الحديدي وعن نتائجها، فمن الخير أن نفترض الآن أن بيث زماني وبقية العالم الآرامي كانوا يتلقون قصديرهم من الشرق.

وربما يمكننا أيضاً أن نتصور أن قصدير أفغانستان استطاع الوصول إلى بيث زماني من خلال منطقة "نائيري"، على هامش طريق استخدمتها سورو من بيث حالوبي وبقية مصارف الخابور والفرات الأوسط. ولكن في العصر الحديدي، كانت "هيندانو" والمنطقة المجاورة لها قد استعادت دون شك شيئًا من دورها الحيوي في تجارة القصدير، بين البلاد البابلية وسوريا الشمالية الغربية التي كانت سابقًا منطقة "ماري". هذا الافتراض يجد له دعماً بذكر تجارة القصدير في منطقة حران في عهد مبكر من القرن السابع. ولنا هذه الشهادة في الأقل في لوحين من ألواح بروكسل. في هذه الظروف، يمكننا أن نفترض، دون البلوغ إلى التأكيد، أن بيث زماني، منذ القرن التاسع، كانت تتلقى قصديرها من الجنوب، عن طريق الخابور.

تصنیع المعادن

إننا نلاحظ في هذه الحقبة كثرة انتشار المعادن. وتثير فينا الكتابات الآشورية الانطباع بأن الفضة والنحاس والقصدير كانت تُخزَن في شكل سبائك، في حين أن الذهب والبرنز بنوع خاص كانا يحفظان في أشكال تحف

فنية ومنتوجات أخرى متقنة.

إن مقتضيات استخلاص المعادن كانت تتطلب دون شك تركيزاً أكبر لدى الأيادي العاملة الخاصة في مناطق المناجم. إلا أن احتياطيات النحاس والقصدير التي كان الآشوريون يسيطرون عليها، والكميات الكبيرة من المنتوجات المتقنة التي كانوا يجدونها في كل مكان تقريباً، والتي عثر الآثاريون على نماذج منها، تولينا الشعور بالإنتشار الواسع لتصنيع المعادن. ويكون هذا الافتراض أرجح بقدر ما كان يتوفر لمختلف الدول السورية في العصر الحديدي الثاني - مجال للحصول على المحروقات اللازمة لهذا التصنيع. وهكذا يمكننا الافتراض أن جميع الممالك المهمة كان لديها أيضاً مهنيّون مختصّون وخبراء يستطيعون تقدير كميات المكونات، فيصنعون منها في الأقل أدوات وأسلحة لها صلة بالزراعة وبأمن الدولة. ولكن لا ينبغي التقليل من قيمة التُحف التي كانت تُباع في العالم القديم. ويبدو أن الفنيين أيضاً كانوا يتجولون في سبيل بيع منتجاتهم. ويمكننا أن نصدّق أن الأغراض المعدنية - التي عُثر عليها في التنقيبات والتي يسّلط الفن الصوري الضوء على استعمالها - كانت في الغالب من الصنع المحلي.

أنواع الإنتاج

لقد اكتُشفت قوالب يبدو أنها كانت تُستخدَم للإنتاج، لصنع الحلي كما للأسلحة ولغيرها من الآلات الكبيرة. إلا أن تقنيّة الصّناع الآراميين ما تزال غير معروفة جيداً. ولقد استطاع البعض أن يحددّوا، على سبيل المثال، طريقة التذويب بالشمع التالف. وكانت هذه الطريقة مستعملة في انتاج جبينية حصان ساموز الذي يحمل كتابة تعود إلى حزائيل، وهي تحفة فنية محفوظة جيداً. وقد أضاءت صناعة المعادن أيضاً طريقة تذويب أو صهر هذه المعادن وصنع مشبّكات مقوّسة. ولم تكن جميع الأغراض المعدنية تُصَب في القوالب. فهناك فوارق صغيرة تبيّن أحيانًا أن أغراضاً مزخرفة، لمشاهد مماثلة أساساً، نُقشت على حدة.

تبادلات تمتد إلى مسافات واسعة

الكتّان الناعم والأصواف القرمزیة

إن اللوائح الآشورية تولينا انطباعاً بأن الصوف والأنسجة ذات الألياف النباتية كانت موجودة في كل مكان. ولكن في ما بين النهرين في الأقل، بينما كان الصوف لاستعمال الجميع، كان الكّتان يُستخدم بنوع خاص لدى الكّهان والأغنياء، وكانت البلدان السامية الغربية تولي قيمة خاصة للكّتان المنسوج بصورة دقيقة (ناعمة)، ويسمى (بوص بوؤِا) وهو يضاهي ما كانت مصر تسميه ب "كّتان الملك". ان ميل الآشوريين إلى مثل هذه البضائع وجشعهم في اقتناء المزيد منها دفعهم إلى ان يقتضوا أنسجة من الكّتان بحواشٍ ملوَّنة (بيرمو) من جميع الدول الآرامية. إلا أن الأنسجة القرمزية كانت أندر بكثير.

لقد لوحظ أن خارج البلاد الفينيقية، لم تكن القرمزيات من اللون الأزرق (تاكيلتو - ةَكّلِةّا) أو الأحمر (أرغامَنّو) توجد بكميات كبيرة إلا في البلدان التي كانت تتبادل المصالح التجارية مع الفينيقيين. وكانت ممالك كركميش وباتينا من المنتجين المهمين للصوف، وهؤلاء الوسطاء المضطرين إلى المتاجرة مع البلاد البابلية، أي الدول الآرامية التي كانت تحيط بملتقى نهرَي الخابور والفرات: لاقو وهيندانو.

إن المصادر الآشورية، ويا للأسف، لا تطلعنا جيداً على الأحوال في سوريا الغربية. أما المصادر التي تتناول ممالك أرباد وحماة ودمشق، فإنها ترقى إلى عصر فيه أصبحت اللوائح المفصّلة للغنيمة وللجزية نادرة. فنأسف لعدم وجود تعليمات حول النشاط الاقتصادي لمركز مهم مثل دمشق في العصر الحديدي. ومع ذلك فإنه لمن الواضح أن دمشق، من جراء موقعها الجغرافي، كانت مهيّأة للعلاقات مع البلاد العربية، وان الطرق الوعرة ولكنها واضحة كانت تفسح لها منفذًا نحو الشاطئ الفينيقي، ونستشف هنا أيضاً الفائدة التي كان في وسع حماة أن تجنيها من مبادلاتها مع الساحل من منفذ حمص، وكذلك مع الفرات من خلال تدمر.

ومعرفتنا تقلُّ أكثر عن التبادلات القارية مع الغرب. ومن المسّلم به أن جزءاً كبيراً من التقنيّة ومن النماذج الفنية للشرق الأدنى التي حّفزت بلاد اليونان في القرن التاسع قبل الميلاد، جاءت من خلال بلاد الأناضول. ولكننا لا نستطيع تحديد الدور الذي قد يكون التجار والمهنيون الآراميون قد قاموا به بجانب الحثيين الحديثين والفريجيين.

مراكز تجاریة على الفرات

كانت كركميش في منعطف طرق عديدة مهمة. فكانت قبل كل شيء واقعة على مدخل الجزء الصالح للملاحة من الفرات. وكانت مدينة دوماً لهذه الحالة بقسم كبير من أهميتها الإقتصادية وتأثيرها الثقافي. وكان ثمة مجال لمصرف آخر على منتصف الطريق نحو البلاد البابلية. وكان نهر الخابور يوّفر إمكانيات لنقل البضائع نحو الشمال. وهنا أيضاً كان نظام من القنوات يسهّل الملاحة مثل الثقافة. وفي جنوبي "ماري"، كان للوادي طابع مختلف تماماً. وفي هذه المنطقة كانت تتمركز، بتفاهم ظاهري، تجمّعات كثيرة، مثل "سيرقو" (ترقا سابقًا)، ولاسّيما "هيندانو". إنهم، والحق يقال، فقراء بالموارد الطبيعية، ولكنهم كانوا نشطين جداً على الصعيد التجاري. والموقع التجاري، المؤاتي لدول الفرات الأوسط، لم يكن يعرّضها لمقتضيات الإمبراطورية الآشورية فحسب، بل كانت تثير أيضاً أمراء تجار آخرين، كانت تراودهم تجربة تجّنب دفع الحقوق لهم. وليس ثمة ما يصف هذا المناخ مثل المقطع الآتي من كتابة "نينورتا كودورّي أوصور"، زعيم سوحو:

"التيمانيون والسبأيون الذين بلدانهم بعيدة، والذين لم يأتِني منهم رسول قط، ولم يمثلوا أمامي قط قافلتهم (...) دخلت مدينة هيندانو. وبلغني الخبر في نحو الظهر في كار أفلاداد. فهيّأتُ مركبتي، وعبرتُ النهر أثناء الليل. وفي الغد، قبل الظهر، وصلتُ إلى "أزلايانو"، وانتظرتُ في أزلايانو ثلاثة أيام. وفي اليوم الثالث، جاؤوا. فأخذتُ منهم أحياء نحو مئة، وقبضتُ على جِمالهم المئتين مع أحمالها، من الصوف القرمزي بلون أزرق (...)، ومن الحديد، ومن الحجر، ومن مختلف البضائع. فحصلتُ على غنيمة وافرة، وجلبتُها إلى بلاد "سوحو".

ويرينا هذا الَنص نفسه إنه إذا كان التجار العرب يبحثون ليقّلصوا إلى حد أدنى المبالغ التي تقتضيها السلطات المحلية، فإن تجارة مراكز القوافل، مثل هيندانو، كانت تبقى أساسية لإجراءاتهم ومشاريعهم. وإذا اعتمدنا ما جاء في أعلاه من الدروس، لا يسعنا الشك في أن البضائع التي صادرها زعيم سوحو كانت تأتي في نهاية الأمر من الغرب، حيث كانوا يهيئون الأصواف القرمزية، وحيث، كما رأينا، كان الحديد متوفراً. ربما أن التجار العرب كانوا قد ذهبوا فاشتروا هذه البضائع من مصادرها. ولكن لم تكن ثمة حاجة إلى الذهاب والبحث عنها في مناطق بعيدة، لأن جميع هذه المنتوجات كانت متوفرة في هيندانو. وعن طريق المبادلة، كانت المنتجات النموذجية للبلاد العربية تتوجه هي أيضاً نحو المراكز التجارية للفرات الأوسط، لكي يتم توزيعها بعد ذلك في الشمال وفي الغرب. فإن الآشوريين، منذ مطلع القرن التاسع، كانوا يجدون "المرّ" في مفترق الطرق هذا، وهنا فقط في العالم الآرامي.

إلا أن الأمور ليست واضحة في ما يتعلق بالحجارة (بابارديلو) التي صادرها "نينورتا. كودورّي أوصور، إفتراضاً ان تكون قراءة الَنص صحيحة. بكل تحّفظ، يترجم ناشرو حوليات سوحو هذه الكلمة بأحجار بياض. إلا أن اللفظة الأكدية للبياض (ألباتو) هي غامضة. فإن آشور ناصربال الثاني الذي يكون قد تلّقى من هذا البياض من كركميش وباتينا وسورو لبيث حالوبي وهيندانو، يعطيه اسماً آخر. وصلة الاكتشافات الآثارية بهذه الألفاظ تطرح معضلات إضافية. وتجدر الإشارة إلى أن سوريا كانت تملك كربونات الكلسيوم المتبلورة الشبيهة الألباتو المصري. لكن الناس لم يشتغلوا كثيراً بهذه الحجارة في العصر الحديدي الأول والثاني. فلا يُذكر الألباتو في الجدول الآثاري السوري في هذا العصر، والبقايا التي وُجدت في حماة وفي كركميش كانت تأتي من مصر. إلا أن ذكر "سورو" و"هيندانو" عند آشور ناصربال هو أمر ذو أهمية، لأن الفرات الأوسط كان يمتلك مستودعات من الألباتو. وفي ما يخص الأشياء الصغيرة من الحجر، ما عدا الأختام، كان فنُّ الآراميين يجد مجاله بالأحرى على حجر الطلق وسربنتين (حجر الحية: مرمر مرّقط)، ...إلخ ومنهما كانوا يصنعون ملاعق جميلة ذات رائحة عطرية، وغالباً يزّينها رأس أسد من فوق ومسحة يد من أسفل.

بضائع أخرى

يبدو أن "لاقو" ومدينة هيندانو، بدون التدخل في تجارة جميع البضائع المطلوبة في عصرهما، كانتا تلاحظان سير بضائع أخرى كثيرة آتية من البلدان الحثية الحديثة وجيرانهم الآراميين، مثل الأرز وغيره من الأخشاب المرغوب فيها. وهكذا استطاع غزاة القرن التاسع قبل الميلاد أن يجدوا خشب الأرز، ليس في الدول المجاورة لأمانوس فحسب، أي من الآراميين والحثيين الحديثين، الذين كانوا سيستمرون في تزويدهم بهذه المادة بصورة منتظمة، بل كذلك في سورو لبيث حالوبي. وبخلاف الأرز الذي كانوا ينقلونه عبر أنهر الجبل، ومن هناك على النهر الكبير، كان تجار الفرات الأوسط يتلقون ظاهرياً حجارتهم في طريق كانت تتوغل مباشرة في الهضاب الشمالية. وبحسب المنت َ ظر، فقد استولى آشور ناصربال على "أحجار الجبال النفيسة" في سورو لبيث حالوبي، وهيندانو، وسورو سوحو. إلاّ أن ملاحظات أسلافه تتيح لنا ان نتتبع فعلاً آثار هذه الحجارة خلال "الجبال". فمنذ السنوات الأولى من القرن التاسع، يشير إليها أدد نراري عند التيمائيين في "جدارا" وفي "نصيبينا". وكان آشور دان الثاني سلفه المباشر قد وجد منها في الشمال، في "كدموهو".

(يتبع السادس عشر)

١ موضع في بلاد اليونان فيه انتصر يوليوس قيصر على خصمه بومبيوس سنة ٤٨ ق. م.

٢- سنلاحظ ان آشور ناصربال الثاني تلقى ٢٠ طنًا من الفضة من باتينا، لدى قيامه بحملته نحو البحر، وان ابنه أخذ ١٠٠ طن حينما زحف إلى بيث أديني، وان تغلاثفلاصر الثالث استوالى على ٣٠٠ طن حينما صفّى بقايا هذه الدولة. ولكن ليس لدينا أرقام لبيث أديني، ولا لحماة ولا لأرباد في أوج ازدهارها. كما نجهل الكمية التي حصل عليها تغلاثفلاصر الثالث من دمشق عند الدمار النهائي الذي ألحقه بهذه المملكة.

٣ كانت المنّا٦٠ /١ من الوزنة. والمنا الآشورية - الحديثة الأكثر تداولاً كانت تزن نصف كيلو غرام. وهكذا فان الوزنة كانت تزن ٣٠ كيلو غراماً. وقدّمت "طبال" عشر وزنات في عهد تغلاثفلاصر الثالث، وكركميش أدت ١١ وزنة و ٢٣ منا في عهد سرجون الثاني.

صورة

هنري بدروس كيفا باريس – فرنسا

الاختصاصي في تاريخ الآراميين
صورة العضو الرمزية
ابن السريان
مدير الموقع
مدير الموقع
مشاركات: 4439
اشترك في: الخميس إبريل 23, 2009 4:36 pm

Re: الآراميون في التاريخ- الإقتصاد الآرامي

مشاركة غير مقروءة بواسطة ابن السريان »

سلام الرب معك
أشكرك أخي الحبيب هنري على هذه المواضيع
أنك تلقي الضؤ على الكثير من تاريخنا العريق
وها نحن اليوم نتعرف على الحياة الاقتصادية للشعب الآرامي
أنهم بالحق من نشر الحضارة للعالم والحربف لينير الشعوب
سلمت يمناك وألف شكر لمعد والباحث فيه
نتظر المزيد منكم وبركة الرب معكم
أخوكم: أبن السريان

موقع نسور السريان
أضف رد جديد

العودة إلى ”التارخ والحضارة السريانية“