الممالك والقبائل الآرامية في بلاد الرافدين أو بلاد ما بين النهرين

الممالك والقبائل الآرامية في بلاد الرافدين أو بلاد ما بين النهرين

(العراق الحالي)

الآراميون شعب سام استوطن وانتشر في منطقة الهلال الخصيب تشير أغلب الدراسات إلى أن سكنهم الأصلي كان جنوب البادية بين العراق والشام، وتسمية آرامي نسبة إلى آرام الابن الخامس لسام بن نوح الوارد في سفر التكوين (10: 22–23)، ومعنى آرام الأرض المرتفعة أو العالية، وأقدم ذكر للآراميين هي قبيلة سوتو ومعناها البدو، وقبيلة خبيرو أو عبيرو ومعناها العابرين، وأشهر وأقوى قبيلة آرامية هي أحلامو وهي كلمة سريانية معناها الشباب (أغلام) أو الأحلاف أو الرفاق، وأول إشارة لقبيلة سوتو في التاريخ وردت من مصر نحو سنة 3100 ق.م.، وأطلقت الوثائق الأكدية عليهم اسم سوتو في نحو سنة 2700 ق.م.F[1]F، وذُكر الآراميون في عهد الملك الأكدي نرام سين (2254–2218 ق.م.)، وورد ذكرهم مُركَّباً (أحلامو– آرام) في النصوص التي اكتشفت في مملكة ماري قرب مدينة البوكمال السورية وتعود للقرن الثامن عشر والسابع عشر قبل الميلاد، ومنذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد دخل الآراميون بصورة واضحة في منطقة الهلال الخصيب، وثبت أن بطوناً منهم استوطنوا مناطق جنوب الفرات بالقرب من الخليج العربي في هذه الحقبةF[2]F، ويظهر أن قبيلة سوتو الآرامية استوطنت شمال الهلال الخصيب قبل قبيلة أحلامو، فقد ورد في رسالتين بابليتين أن قبيلة أحلامو البدوية تركت موطنها الأصلي في الجنوب وجاءت إلى الشمال لما سمعته من نجاحات حققها إخوانها السوتو هناك، لذلك يرد اسمهم مترادفاً لاحقاً (سوتو– أحلامو) كما في أحد نصوص الملك الآشوري أرك دن إيلي (1319–1308 ق.م.)، ويمكن تتبع حركتهم من حوليات الملك الآشوري Hأدد نيراري الأولH (1307–1275 ق.م.) الذي ذكر أن أباه حارب الأحلامو في شمال بين النهرين، ومن حوليات Hحاتوشيلي الثالثH حوالي (1275–1250ق.م)، تؤيد ذلك الوثائق المعروفة Hبرسائل تل العمارنةH في مصر (أخيت – أتون) وتقول: إن قبائل الآراميين كانت تتجول على ضفاف HالفراتH من عهد HإخناتونH (1380–1362 ق.م.)، ومنذ عهد الملك الآشوري Hتغلات فلاصر الأولH (1115–1077 ق.م.) ظهر اسم (أحلامو– آرام) حيث يتباهى هذا الملك بأنه حارب الآراميين من مدينة عانة (العراق) وكركميش (جرابلس سوريا) إلى مدينة ربيقو (الرمادي العراق)، قائلاً: “بقوة سيدي آشور زحفتُ بجنودي إلى الصحراء لمقارعة قوات الأحلامو الآرامية وطاردت فلولهم ثمان وعشرين مرة”، ومنذ هذا التاريخ بدأ الآراميون بتشكيل كيانات سياسية قوية نوعاً ما، وأخذ الاسم الآرامي يطغى على بقية الأسماء المركَّبة القديمة وأصبح مألوفاً في الحوليات الآشورية، وبقيت أسماء طلائع الآراميين في بلاد الهلال الخصيب مثل سوتو وأحلامو أسماء وصفية تعني (البدو أو الشباب أو الأحلاف أو الرفاق).

ويُعدُّ الكتاب المقدس مصدراً رئيساً لأخبار الآراميين، فقد ورد ذكرهم فيه عشرات المرات، كما ذُكرت أسماء عدة ممالك آرامية وأسماء ملوكها مثل رشعتايم ملك آرام نهرين، وحزائيل وابن هدد ملكا آرام دمشق وغيرهم، وأهم ما يميز الآراميين عن الآشوريين والبابليين في الكتاب المقدس هو أن الله أرسل إيليا النبي ليمسح ملكاً آرامياً هو حزائيل قائلاً لإيليا النبي: “ادخل وامسح حزائيل ملكاً على آرام” (1 ملوك 19: 15). كما أنهم لم يوصفوا بالسوء كثيراً مثل الآخرين.

تمكّن الآراميون من تأسيس عدة ممالك سيطرت على مناطق واسعة من بلاد الرافدين والشام، وباستثناء الدولة الكلدانية الآرامية التي اشتهرت باسم قبيلتها الآرامية (كلدة) ومملكة آرام دمشق، لم تتمكن الممالك الآرامية الأخرى من تكوين كيانات كبيرة وقوية على غرار الدول البابلية والآشورية بالرغم من امتدادها على مساحات شاسعة من بلاد عيلام شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً، ومن جبال الأمانوس شمالاً إلى تخوم الخليج والحجاز جنوباً، ويعود السبب في ذلك إلى ثلاثة عوامل هي:

1: عامل تاريخي: إن الآشوريين عُرفوا تاريخياً بمعاداتهم للآراميين، في حين أن الآراميين كانوا يكافحون من أجل حريتهم ومن أجل الاستقرار وحياة أفضل، وكانت الدولة الآشورية قاسية جداً في التعامل معهم مستعملة العنف والسبي والإعدام ونهب الثروات وأخذ الجزية وغيرهاF[3]F.

2: عامل خارجي: كانت الممالك الآرامية تقع بين دول كبيرة تحاول تجنب الدول الآشورية والبابلية مثل دولة عيلام والحثيين ومصر، فكانت هذه الدول تحرض الآشوريين والآراميين وتغيّر تحالفاتها دائماً بحيث تجعل الممالك والقبائل الآرامية في مواجهة الآشوريين لتجنب شرهم.

3: عامل داخلي: إن كثيراً من القبائل الآرامية كانت تحبّذ الولاء القبَلي الداخلي على الولاء السياسي للدولة الموحدةF[4]F، ونستطيع القول: إن الآراميين شكلوا مجتمعات متحضرة ومستقرة، ويلاحظ أن الممالك الآرامية لم تكن ملتزمة كثيراً بنظام الخلافة أي الملكية الوراثيةF[5]F، ولهذا فإن الثقافة الآرامية كانت أرقى من غيرها، وإن الآراميين كانوا ذوي عقل تجاري وزراعي متطور، وكانوا أغنياء قياساً بالبقية، ومهتمين بشؤون حياتهم الداخلية أكثر من اهتمامهم بالسياسات الخارجية، والدليل الآخر على ثقافتهم الراقية هو انتشار لغتهم التي أصبحت لغة دولية للجميع دون مساندة من دولة سياسية قوية.

ومن الملاحظ أن الآراميين في بلاد الرافدين وصلوا إلى دفة الحكم السياسي قبل آراميي سوريا، وما ميّزَ آراميي جنوب بلاد الرافدين عن شماله، هو أن الشماليين كانوا مسالمين أكثر من الجنوبيين عموماًF[6]F، والسبب هو أن الآراميين كانوا على العموم مساندين لحكام بابل نتيجة لقسوة الغارات الآشورية عليهم.

إن أقدم ذكر لاسم آرام كإقليم في وادي الرافدين كان في عهد الملك الأكدي نرام سين (2254–2218 ق.م.) بصيغة Am–Ara في نسخة بابلية لكتابة أكدية تتحدث عن انتصار نارام سين على شيخ آرام اسمه خرشاماتكي، وفي وثيقة أخرى اكتشفت في مدينة خفاجة العراقية تقول إن الأحداث المذكورة وقعت في مدينتي (سيموروم وآرامي)، ويستدل من الوثيقتين أن المدينتين تقعان شرق دجلة بين نهري ديالى والزاب الأسفل، كما ظهرت وثيقة تجارية في مدينة دريهم العراقية مؤرخة في سنة ست وأربعين لحكم الملك الأكدي شولجي (2094–2047 ق.م.) من سلالة سومر الثالثة، كُتب عليها اسم (آرامي)، ووثيقة أخرى من عهد الملك شوشن (2037–2029 ق.م.) ذُكر فيها اسم (آرامو)F[7]F، ومنذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد تشير الوثائق إلى انتشار الآراميين في جنوب العراق، فقد اشتكى حاكم دلمون (البحرين) إلى والي مدينة نفر العراقية (عفك قرب الديوانية) من أن الأحلامو نهبوا تمور بلاده.

واستوطن قسم من الآراميين شمال الخليج العربي وحوض دجلة الأدنى (سوسة عاصمة عيلام، جنديسابور، شوشتر في خوزستان، الأحواز، وغيرها)، واستقروا في القسم الجنوبي الشرقي من دجلة على امتداد ضفتي شط العرب وفي السهول الممتدة بين نهري الكرخة والكارون.

وفي منتصف القرن التاسع قبل الميلاد شكَّل الآراميون قوة لا يستهان بها ويُحسب لها ألف حساب، فقد استولى أمراء آراميون على عرش HبابلH ومنهم Hنابو مكين زيريH (731–729 ق.م) Hومردك أبلا إديناH (721–705/703 ق.م)، وفي خضم هذه النزاعات طارد وشرد الآشوريون حوالي ( 208,000) آرامي في مختلف أرجاء الهلال الخصيب، وقام تغلاث فلاصر الثالث (744–727 ق.م.) بتهجير خمس وثلاثين قبيلة قائلاً: لقد أخضعتُ كل أبناء الشعب الآرامي المتواجدين على ضفاف دجلة والفرات حتى نهر الكرخةF[8]F، لكن الآراميين لم يقروا بالهزيمة، فأعيد بناء HبابلH التي سرعان ما استأنفت تصديها لمطامع الHآشورHيين، واستطاع أمير قبيلة كلدة الآرامية Hنابو بلاصرH (626–605 ق.م) أن يُعلن نفسه ملكاً على بابل وأن يشنّ على آشور حرباً لا هوادة فيها متحالفاً مع أعدائها HالميديينH المحيطين بها من الشرق والشمال، وانتهت الحرب بالقضاء على مملكة آشور سنة 612 ق.م.، وقامت على أنقاضها Hالدولة الآرامية الكلدانيةH والتي كان من العسير التفريق فيها بين الكلدانيين والآراميين فضلاً عن البابليين، فقد اختلط الجميع وتمازجوا بقوة وعمق في إطار ثقافة آرامية كانت Hاللغة الآراميةH أهم عناصرها، وتزوج الملك الآشوري بل كالا (1074–1075 ق.م.) ابنة أدد أبال أدن الآرامي (1067–1046 ق.م.)، وتزوج الملك الآشوري سنحاريب (704–681 ق.م.) من آرامية اسمها فقيا ومعناها (النقية أو الطاهرة) التي تسميها المصادر الآشورية (زاكوتو)، وبرز كثير من الكتاب والمثقفين ذوي الكفاءات في البلاط الآشوري مثل أحيقار، وعيَّن شلمنصر الثالث شاشي الآرامي حاكماً على إحدى مقاطعة قلقيلية التابعة له، وبقي الأمر على هذا النحو إلى أن سقطت الدولة الآرامية الكلدانية على يد الفرس الأخمينيين سنة 539 ق.م.، وذهب كثير من المؤرخين والمحققين إلى أن اسم الآراميين كان شاملاً للكلدان والآشوريين كما مر بنا، ويقول تقرير لجنة التحقيق الدولية التابعة لعصبة الأمم المتحدة حول رسم الحدود بين تركيا والعراق الذي صدر في 30 أيلول سنة 1924م: إن غالبية مسيحييّ وادي دجلة هم من نسل السكان الآراميين الذي كانوا أغلبية سكان القطر العراقي في زمن الأرشاقيين والساسانيين عندما بدأت العقيدة المسيحية بالانتشارF[9]F.

ومنذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد انتشر الآراميون في بلاد آشور وأصبحوا بأعداد كبيرة في المدن الآشورية موزعين على كل مرافق الحياة المدنية والعسكرية، حتى إن عددهم فاق مع الزمن عدد الآشوريين، واستطاع علماء الآشوريات في العقود الماضية كشف كثير من الحقائق بخصوص الوجود الآرامي في الدولة الآشورية غيّرت المفاهيم القديمة عن ديموغرافية الدولة الآشورية وهويتها، منهم العالم أندره لومير المختص بقراءة النقوش القديمة فكتب سنة 2004م بحثاً بعنوان “الآراميون شعب ولغة وكتابة خارج حدود الإمبراطوريات”:

Les Araméens, un peuple, une langue, une écriture, au-delà des empires

يعلّق فيه على سياسة الآشوريين في توطين الآراميين في آشور ويقول: “بالحقيقة لقد حول الملوك الآشوريون دولتهم إلى إمبراطورية آشورية –آرامية عندما دمجوا فيها أعداداً كبيرة من الآراميين”، وكذلك العلاّمة “ح. تدمر” الذي ذكر في بحثه “كيف أصبحت آشور آرامية “قائلاً: إن قلب آشور كان قد تحول إلى شبه آرامي Semi ArameanF[10]F.

ومنذ القرن العاشر قبل الميلاد بدأت اللغة الآرامية تحل محل اللغة الأكدية (الآشورية) القديمة التي كانت صعبة وتُكتب على الطين، وقد وجدت نقوش بالمسمارية الأكدية إلى جانب الآرامية مكتوبة على طين، وأصبحت الآرامية في القرن الثامن قبل الميلاد اللغة الرسمية لبلاد آشور، ويوجد على الأقل أربعة نماذج لرسائل ملوكية آشورية مكتوبة بالآرامية، وفي إحدى الرسائل الموجهة من شخص يدعى سين– أدينا في مدينة أور إلى الملك سرجون الثاني يقول له: كتبتُ لك بالآرامية على رسائل ملفوفة، فيجيبه سرجون مؤنباً له: لماذا لا تكتب لي رسائلك بالأكدية على قطعة من طينF[11]F، واستناداً إلى نص الرسالة يذهب المؤرخون إلى أن الملك سرجون كان يريد أن تأتيه الرسائل الخاصة بالبلاط الملكي من المناطق البعيدة بالأكدية المسمارية لكي تكون سرية ولا تقرأ من قِبل الآخرين بسهولة لأن الآرامية كانت قد طغت على الأكدية الآشورية القديمة وأصبحت لغة الشعب الرئيسة، ووردت في نصوص آشورية منذ القرن الثامن قبل الميلاد مصطلحات تدل على استعمال الآرامية، منها قوائم بأسماء تسليم حصص النبيذ في مدينة نمرود.

وهناك أسماء آرامية كثيرة كانت تعمل في البلاط الملكي وردت على منحوتات كانت تزين القصور الملكية في عهد تغلاث بلاصر وسرجون وسنحاريب وآشور بانيبال حيث يظهر في أغلبها شخصين أحدهما آشوري والآخر آرامي يقفان جنباً إلى جنبF[12]F، كما عثر على رسالة مهمة باللغة الآرامية تعود إلى عهد آشور بانيبال تسمى صدفية آشور وجهها موظف آشوري يدعى براتير إلى موظف آشوري آخر يدعى فيراورF[13]F، وهناك أدلة كثيرة منها اكتشاف نقوش باللغة الآرامية على الأوزان الرسمية وعلى أوراق عمليات البيع والشراء وغيرها، وعندما أرسل الملك الآشوري سنحاريب قائد جيشه ربشاقي إلى ملك اليهود حزقيا يطلب منه الاستسلام، أصر ربشاقي على التحدث بالعبرية لكي يفهم كل الشعب بغية إثارته على القيادات اليهودية وإحداث انشقاق وحرب أهلية بينهم، فطلب المسئولون عن قصر حزقيا اللذين تفاوضوا مع ربشاقي أن يكلمهم بالآرامية (السريانية) التي كانت لغة الدولة الآشورية: “فقال الياقيم بن حلقيا وشبنة ويواخ لربشاقى كلم عبيدك بالآرامي لأننا نفهمه ولا تكلمنا باليهودي في مسامع الشعب الذين على السور (2 ملوك 18: 26)، وهذا دليل واضح على أن ربشاقي كان يتكلم الآرامية.

بعد سقوط نينوى سنة 612 ق.م. كان سكانها آراميونF[14]F، وسمَّوها بالآرامية (السريانية) حصنا عبرايا (حسنا عبريا) معناها القلعة، ودعاها الفرس نواردشير، وبقيت مدينة نينوى والمنطقة الجغرافية المحيطة بها مثل النمرود تسمى آشور أو آثور، وهو اسم جغرافي بحت استعمله بعض المؤرخين السريان واليونان واليهود وغيرهم الذين احتفظوا بالأسماء القديمة فيما بعد وخاصة اليهود، ثم شاع اسم الموصل على نينوى بعد الإسلام، وهناك من يرى أن اسم الموصل آرامي Mespila يعني مصب الإله.

ويؤكد روبنس دوفال (1829–1911م) أن الآراميين كانوا يشكلون غالبية سكان بلاد ما بين النهرين وبابل وأربيل وكركوك وأورميا وبلاد الأهواز وأطرافهاF[15]F.

ويذكر المطران الكلداني سليمان الصائغ أن بعض المحققين ذهب إلى أن اسم الآراميين كان شاملاً للكلدان والآشوريينF[16]F.

ويقول المطران أوجين منا الكلداني: إن جميع القبائل الساكنة قديماً في البلاد الفسيحة الواسعة المحدودة ببلاد الفرس شرقاً والبحر المتوسط غرباً وبلاد الأرمن وبلاد اليونان في آسيا الصغرى شمالاً وحدود جزيرة العرب جنوباً كانت قاطبة معروفة ببني آرام أو الآراميين، نعم إن بعضاً من هذه القبائل كانت تسمى أيضاً بأسماء خصوصية كتسمية أهل بابل وما يجاورها بالكلدانيين وتسمية سكان مملكة آثور بالآثوريين وتسمية أهل الشام بالآدوميين، ولكن مع ذلك كانت تسمية الآراميين تشملهم جميعاً، كما أن تسمية الطي وقريش وحميّر وكنانة لا تخرج هذه القبائل من كونهم عرباًF[17]F.

إن اسم أحْمَتا عاصمة دولة مادي (سفر يهودت 1: 1)، هو اسم آرامي، والاسم الفارسي القديم لها هو (هجمتانا)، وسمَّاها اليونان أكبتا، وهي اليوم مدينة همدان الإيرانيةF[18]F.

إن أغلب شعب الدولتين الآشورية والكلدانية كان آرامياً من الناحية القومية والعرقية، والدليل على ذلك هو أن الكتاب المقدس يذكر أكثر من اسم لأشخاص عاديين يلقَّبون بالآرامي لم يكونوا ملوكاً ولم تكن لديهم دولة آرامية قوية تساعد في انتسابهم إليها، مثل بتوئيل ولابان ونعمان الآراميين، وكذلك هناك نساء آراميات كما جاء في (1 أخ 7: 14)، فقد كان لمنسّى سريّة آرامية، كما أنه فضلاً عن آرام بن سام نجد أن كثيرين قد تسمَّوا باسم آرام مثل، آرام بن حصرون (راعوث 4: 19، ومتى 1: 3)، وآرام بن قموئيل (تك 22: 21)، وأيضاً بنو شامر أخي آرام (1 أخ 7: 34)، بينما لا نجد هناك اسماً واحداً لشخص لقبه الكلداني أو الآشوري في الكتاب المقدس، باستثناء مرة واحدة لُقِّب فيها نبوخذ نصر بالكلداني لأنه كان من قبيلة كلدة الآرامية وملكاً للدولة الكلدانية التي كانت آرامية القومية والعرق، كما أننا نجد أن هناك تجمعات سكنية خاصة بالآراميين في كنف الدولتين الآشورية والكلدانية تدل على طابعها القومي والعرقي: “إذا قلنا ندخل المدينة فالجوع في المدينة فنموت فيها وإذا جلسنا هنا نموت، فالآن هلم نسقط إلى محلة الآراميين فإن استحيونا حيينا، وإن قتلونا متنا، فقاموا في العشاء ليذهبوا إلى محلة الآراميين فجاءوا إلى آخر محلة الآراميين فلم يكن هناك أحد (2 ملوك 7: 4–5)”، كذلك راجع آية (10 و 16) من السفر، بينما لا نجد مثل ذلك مع الآشوريين والكلدان.

ونتيجة لكثرة القبائل الآرامية التي سكنت المنطقة الواقعة من بابل وحتى الخليج العربي، فقد سمَّيت فيما بعد منطقة الكلدانيين نسبة الى قبيلة كلدة الآرامية، وقد سميت هذه المنطقة باسمهم في المصادر المسيحية (بيث آراماي) أي بيت أو بلاد الآراميينF[19]F.

وهذه المنطقة هي منطقة الكاسديين الآراميين نسبة إلى كاسد بن ناحور من امرأته مِلْكة ابنة هاران الوارد في سفر (التكوين 22: 22)، وكذلك (يشوع 24: 2)، وناحور هو أخو إبراهيم بن تارح، أي أن إبراهيم هو عم كاسد.

ومعلوم أن إبراهيم وأخوته وبنيه حسب الكتاب المقدس كانوا آراميين نسبة إلى عمهم البعيد آرام بن سام، وكذلك فإن كاسد ابن ناحور وأخوته وعشيرته كانوا آراميينF[20]F.

واستناداً إلى سفر الثنية (26: 5) كان إبراهيم آرامياً:” آرامياً تائهاً كان أبي فانحدر إلى مصر وتغرب هناك في نفر قليل فصار هناك أمة كبيرة وعظيمة وكثيرة”، وأوصى إبراهيم أن يتزوج ابنه اسحق من بنت آرامية من عشيرته: “إلى أرضي وإلى عشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني اسحق (تك 24: 4)”، وفعلاً تزوج اسحق رفقة ابنة بتوئيل الآرامي، “وكان اسحق ابن أربعين سنة لما اتخذ لنفسه زوجة رفقة بنت بتوئيل الآرامي أخت لابان الآرامي من فدان آرام (تك 25: 20)”، وبتوئيل هو أخو كاسد بن ناحور (تك 22: 21–23)، أي أن بتوئيل هو ابن أخي إبراهيم أيضاً، ثم تزوج يعقوب راحيل وليئة ابنتي لابان الآرامي ابن بتوئيل الآرامي: “فصرف اسحق يعقوب فذهب إلى فدان آرام إلى لابان بن بتوئيل الآرامي أخي رفقة أُم يعقوب وعيسو (تك 28: 5)”.

أما بخصوص ناحور أبو كاسد فهو: ناحور أخو إبراهيم بن تارح، وتزوج من مِلْكة ابنة هاران في أور، ثم أقام في مدينة ناحور (حاران) في آرام النهرين (حاران)، وهي المدينة التي أرسل إليها إبراهيم عبده ليجلب رفقة زوجة لابنه اسحق، وأنجب ناحور من ملكة ثمانية أبناء هم، عوصا، بوزا، قموئيل، حزو، فلداش، يدلاف، بتوئيل، وأصبح هؤلاء الثمانية فيما بعد أجداد القبائل الآراميةF[21]F.

ويقول الأب بولس الفغالي: إن ناحور أخو إبراهيم وأبو كاسد صار بواسطة نسائه جَدّاً لاثنتي عشرة قبيلة أو مستوطنة آرامية، ثمان منها تنحدر من زوجته مِلْكة وأربع من سريته رؤومة، وفي النصوص المسمارية المتأخرة نجد اسم ناحور كاسم شخص (ناحيري، ناحور) وكاسم مكان (نحور، تل نحيري)، وهي مدينة في منطقة حاران شمال بلاد الرافدين على الضفة اليمنى لنهر خابور، اتخذت أهمية في الألف الثاني قبل الميلاد، وقد تعني العبارة مدينة ناحور الذي هو أخو إبراهيم، وذُكرت في اللوحات الكبادوكية في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ويبدو أنها لعبت دوراً هاماً في مراسلات مملكة ماري في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وكانت عاصمة مقاطعة آشورية أيضاً، وفي القرن الثالث عشر قبل الميلاد هاجمها الآراميون ودمروها، فولدت مدينة باسم تل نحيري في القرن السابع، وبين تلك المدتين قامت في المنطقة قبائل آرامية تذكرهم التوراةF[22]F.

وسنذكر باختصار أهم الممالك الآرامية التي قامت في بلاد وادي الرافدين أو بين النهرين (العراق الحالي) وفي شرق (بلاد الشام) القريبة.

(يتبع)

[1]: ألبير أبونا، أدب اللغة الآرامية ص12.

[2]: أ. ولنفسون، تاريخ اللغات السامية ص15.

[3]: المطران غريغوريوس صليبا شمعون، الممالك الآرامية ص 16.

[4]: سليمان بن عبد الرحمن الذييب، نقوش تيماء الآرامية ص32.

[5]: ألبير أبونا، الآراميون في التاريخ ص 149.

[6]: سليمان بن عبد الرحمن الذييب، نقوش تيماء الآرامية ص15–16.

[7]: علي أبو عساف، الآراميون ص11.

[8]: أ. دوبون سومر، الآراميون ص122.

[9]: جرجيس فتح الله، يقظة الكرد ص 584.

[10]: مجلد مسوبوتاميا وجيرانها ص450Mesopotamien und seine Nachbarn

[11]: أ. د يوسف متي قوزي، محمد كامل روكان، آرامية العهد القديم ص 18.

[12]: اندريه بارو، بلاد آشور ونينوى وبابل، ترجمة عيسى سلمان، الأشكال 17،384.

[13]: أ. دوبون سومر، الآراميون، ترجمة الأب ألبير أبونا ص 108.

[14]: المطران سليمان الصائغ، تاريخ الموصل ج1 ص 38.

[15]: روبنس دوفال، تاريخ الأدب السرياني، ترجمة الأب لويس قصاب ص22.

[16]: المطران الكلداني سليمان الصائغ، تاريخ الموصل ج2 ص 6.

[17]: المطران أوجين منا الكلداني، دليل الراغبين في لغة الآراميين ص13.

[18]: الأب بولس الفغالي، المحيط الجامع في الكتاب المقدس والشرق القديم ص 128.

[19]: راجع الأب يوسف حبي كنيسة المشرق الكلدانية الآشورية ص31، كذلك راجع خارطة المنطقة في كتاب مجامع كنيسة المشرق لنفس المؤلف ص7.

[20]: إبراهيم هو ابن تارح من نسل قينان بن أرفكشاد أخو آرام بن سام.

[21]: قاموس الكتاب المقدس ص 944.

[22]: الأب بولس الفغالي، المحيط الجامع في الكتاب المقدس والشرق القديم ص1287.