اللغــة الآرامـيــة: لهجاتها وفروعـهــا
الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم
اللغــة الآرامـيــة: لهجاتها وفروعـهــا
ان مصطلح “اللغة الآرامية” هو تعبير يشمل مجموعة من اللهجات والفروع الآرامية المكتوبة وغير المكتوبة، حيث يُطلق على كل واحدٍ منها تعبير “آرامية”، لكن الكثير منها لها اسماء “محلية” ايضاً. ونشبِّه الآرامية بعنقودٍ من العنب، حيث ان كل حبات العنقود هي آرامية لكن لكل حبة اسمها المحلي بالاضافة الى اسمها الآرامي.
تنفرد اللغة الآرامية بين جميع شقيقاتها في مجموعة اللغات الساميّة كونها اللغة الساميّة الوحيدة التي لا زالت متداولة على قيد الحياة منذ ثلاثة آلاف سنة على الاقل دون انقطاع في الاستعمال لا في الكلام ولا في الكتابة.
وهذا يجعلها واحدة من أقدم لغات العالم التي لا زالت حية لغاية الآن، وهذا بحد ذاته فخر لها ولاصحابها. كما انها تعيش بقوتها الذاتية وليس بقوة أي دولة أو نظام يحميها.
واللغات السامية التي تنتمي اليها الآرامية هي مجوعة كبيرة من اللغات المتصلة ببعضها والمتقاربة حيث تشكل عائلة لغوية على غرار العائلات اللغوية الاخرى كالعائلة الجرمانية والعائلة اللاتينية وغيرها.
بعض اللغات السامية لا زالت في الحياة مثل الآرامية والعربية والعبرية والأمهرية وغيرها، وبعضها ماتت واندثرت منذ عهد سحيق ولا يوجد من يتحدث بها اليوم كالأمورية والاكادية والكنعانية وغيرها.
تقسم اللغات الساميّة الى مجموعات ولكل مجموعة عدة فروع، لكنني أفضِّل ان أقسمها الى:
1- اللغات الساميّة الشرقية الشمالية (تمثلها الاكادية بفرعيها البابلي والاشوري)؛
2- اللغات الساميّة الشرقية الجنوبية (وتمثلها لغات الحبشة مثل الجعز والامهرية والتيغرينية، بالاضافة الى لغات جنوب الجزيرة العربية كالقتبانية والحضرمية وغيرها)؛
3- اللغات الساميّة الغربية الجنوبية (وتمثلها العربية الكلاسيكية “الفصحى”، واللهجات العربية العديدة الموجودة اليوم)؛
4- اللغات الساميّة الغربية الشمالية (وتمثلها الآرامية والكنعانية، والعبرية وغيرها). ولغات كل مجموعة قريبة جداً من بعضها.
وقد عاصرت الآرامية مجموعة من اللغات الأخرى القديمة وعاشت معها جنباً الى جنب وتأثرت بها وأثرت فيها، إلا ان الكثي من تلك اللغات ماتت وزالت عبر مسيرة التاريخ لكن الآرامية بقيت وعاشت شامخة الرأس لغاية اليوم.
ولما عاشت الآرامية هذه الفترة الطويلة (موثقة منذ أكثر من 3000 سنة) فمن الطبيعي ان يطرأ عليها التغيير الذي تفرضه سنّة الحياة ويقتضيه التطور الذي يصيب اللغات، مما ولّد فيها الكثير من اللهجات الآرامية أو الفروع الآرامية البالغة بالعشرات.
بعض اللهجات الآرامية التي دوّنت اصبحت لغات معروفة كآرامية الرها وآرامية التلمود وآرامية الكتاب المقدس، وبعضها الأخرى استمرت شفهية ولم تدون فبقيت لهجات محكية، منها ماتت ولم تُعرف، ومنها ما زالت حية تُحكى ولا تُكتب مثل آرامية طور عابدين وآرامية معلولا وآرامية اليهود وآرامية السريان المشارقة (السورث المدونة حديثاً).
ومنها ما هو حي لكنه على طريق الموت والزوال كاللهجات الآرامية التي يتكلمها اليهود في اسرائيل وآرامية “ملحثو” (بجوار دياربكر) وغيرها.
كان الوضع اللغوي الآرامي في الشرق الاوسط في زمن السيد المسيح يشبه الى حد ما وضع اللغات العربية في العالم العربي اليوم.
إذ كانت اغلب منطقة الشرق الاوسط تتكلم الآرامية وكان لكل مدينة ومجموعة بشرية لهجتها المحلية تماماً مثلما يوجد اليوم مئات اللهجات العربية، حيث ان كل مدينة لها لهجتها، لا بل كل حي في المدينة له “لهجته” الخاصة.
وبسبب العمر المديد للآرامية فاننا نميّز في حياتها أربع مراحلٍ زمنية، وتتميز كل مرحلة عن التي قبلها وبعدها ببعض الخواص اللغوية التي نشأت فيها.
مراحل اللغة الآرامية:
1. الآرامية القديمة: بدأت هذه المرحلة منذ ظهور الآرامية على مسرح الحياة حيث كانت لغة الآراميين ودولهم الآرامية العديدة المنتشرة في منطقة الهلال الخصيب، واستمرت هذه المرحلة لغاية سقوط الدول الآرامية، أو حوالي 700 قبل الميلاد.
ومن خواص الآرامية في هذه المرحلة انها كانت تستعمل الاسماء والصفات بالحالة الاساسية التي نسميها Absolute state اي الحالة التي لا تنتهي بحرف الالف.
2. الآرامية الرسمية: وتمتد منذ 700 قبل الميلاد لغاية حوالي 300 قبل الميلاد.
ونسميها رسمية لانها استُعملت كلغة رسمية في ثلاث امبراطوريات وهي على التوالي:
الامبراطورية الاشورية في نهاية حياتها، الامبراطورية البابلية والامبراطورية الاخمينية الفارسية.
وتنتهي هذه المرحلة بمجيء اليونان بقيادة اسكندر المكدوني الى المنطقة.
وهنا استُعملت الآرامية ليس فقط من قبل أصحابها الآراميين انما استعملتها شعوب أخرى ايضاً لأنها اصبحت لغة عالمية في ميدان السياسة والتجارة والعلاقات، كما انها خرجت من منطقتها التقليدية، ووصلت مع الامبراطوريات المذكورة الى مناطق جديدة تمتد من مصر الى وادي الهندوس.
3. الآرامية المتوسطة: وتمتد منذ مجيء اليونان للمنطقة حوالي 300 قبل الميلاد لغاية المسيح او لغاية مجي الرومان للمنطقة.
وفي هذه المرحلة انتشرت اليونانية وبدأت تنافس الآرامية وتزاحمها على مكانتها في التدوين في المنطقة الى ان كُتب لها الغلبة.
لكن استمرت الآرامية في الكلام والتخاطب الشفهي في البيت والمجتمع.
وعلى أثر استعمال اليونانية في الادارة والدواوين والتأليف وتقهقهر الآرامية على المستوى الكتابي أخذ يظهر في الآرامية التنوّع اللفظي وتتكرس فيها اللهجات المحلية.
ويبدو ان الحالة القواعدية للاسماء والصفات والتي تنتهي بحرف الالف والتي نسميها الحالة التوكيدية Emphatic state بدأت بالانتشار في الاستعمال في هذه المرحلة على حساب الحالة الاساسية التي تقلص استعمالها.
4. الآرامية المتأخرة: وتبدأ منذ زمن المسيح وتستمر
لغاية القرن الثالث عشر الميلادي.
وفي هذه المرحلة تطورت الآرامية في دولة الرها السريانية والمناطق المجاورة لها لغاية نصيبين وازدهرت وانتشرت بسرعة.
ومنذ بداية القرن الخامس الميلادي بدأت آرامية الرها هذه تسمى “سريانية” (وتسمى اليوم لدى اصحابها بالسريانية الفصحى ايضا).
وقد انتشرت “السريانية” على حساب الفروع الآرامية الاخرى بعد ان تحولت الى لغة الكنيسة المسيحية المشرقية وانتشرت معها ووصلت مع المبشرين السريان الى الهند والصين وغيرها من الاماكن في آسيا الوسطى. وقد دوّن بالسريانية مجمل الادب السرياني وكافة الطقوس الكنسية التي لا زالت حية لغاية اليوم.
ان الادب الذي دوّن في السريانية (آرامية الرها) فاق بحجمه وبنوعيته كل الآداب التي دوّنت في مختلف الفروع الآرامية الاخرى.
ومن المزايا اللغوية المميزة في السريانية (اي آرامية الرها) ان تولد فيها حرف النون بدلا من الياء كأداة في بداية افعال الزمن المستقبل، اذ ان الفروع الآرامية الاخرى المدونة تستعمل حرف الياء.
كما حلَّ استعمال الحالة التوكيدية في الاسماء والصفات وأخذت مكان الحالة الاساسية واختفى معناها التوكيدي، كما أختفى استعمال الحالة الاساسية من اللغة لكنه بقي في حالات نادرة جداً.
إن السريانية لا تتضمن أداة للمعرفة.
وبسبب الانتشار الهائل لآرامية الرها المعروفة بالسريانية فقد تطورت واعتراها شيء من التغيير.
وبالامكان تقسيم الآرامية السريانية الى ثلاث مراحل:
السريانية الكلاسيكية، لغاية القرن السادس الميلادي، وقبل ان تنقسم الى شرقية وغربية.
السريانية المتوسطة، من القرن السابع الميلادي ولغاية القرن التاسع عشر (انقسمت السريانية هنا الى سريانية شرقية يستعملها السريان المشارقة اي النساطرة والكلدن، وغربية يستعملها السريان المغاربة اي السريان الارثوذكس والسريان الموارنة والسريان الكاثوليك).
وهناك فروقات مورفولوجية وأورثوغرافية بين السريانية الشرقية والغربية.
السريانية الحديثة، المستعملة اليوم في الادب؛ وتختلفت السريانية الحديثة عن السريانية الكلاسيكية الى حد ما في تركيب الجملة وفي المعاني المستحدثة.
(لاحظ ان السريانية الحديثة ليست اللغة المحكية “السورث” أو لهجة “طورعابدين” أو غيرها، لكنها نفس السريانية الفصحى التي نستعملها اليوم ونسميها “حديثة” لانها تطورت الى حد ما وفيها بعض المزايا ).
إنني لمستغرب جداً عندما يطلقون في العراق على الآرامية المحكية “السورث” اسم السريانية، فيختلط الحابل بالنابل.
“السريانية” في الاوساط الاكاديمية هي فقط اللغة الفصحى وليست المحكية، اما المحكية فتصنيفها العلمي هي آرامية حديثة.
5. الآرامية الحديثة: وتشمل الفروع الآرامية التي يتكلمها الآن السريان واليهود وغيرهم، ونسميها آرامية حديثة Neo-Aramaic ليس لانها تولدت حديثاً انما لنميزها عن بقية المراحل الآرامية الاخرى المذكورة.
وتنتشر الآرامية الحديثة في تركيا وسوريا ولبنان والعراق وايران، وانطلقت مع البعض من ناطقيها الى روسيا وجورجيا وارمينيا واوروبا وامريكا واستراليا. والذين يتكلمون الآرامية الحديثة يتوزعون على اربعة اديان ففيهم من المسيحيين واليهود والمسلمين والصابئة.
وتقسم الارامية الحديثة بدورها الى:
شرقية (في العراق وايران) ومتوسطة (في جنوب شرق تركيا والجزيرة السورية) وغربية (قرب دمشق).
والآرامية الحديثة الشرقية East Neo-Aramaic وهذه المجموعة هي أكبر مجموعة في اللغة الآرامية الحديثة. وتنقسم بدورها الى شمالية وجنوبية، الآرامية الشرقية الشمالية هي التي يتحدث بها المسيحيون السريان واليهود في شمال العراق وأيران مع اختلافات وتنوعات كبيرة ضمن المجموعة الواحدة، اما الآرامية الشرقية الجنوبية فهي آرامية الصابئة.
اما الارامية الحديثة المتوسطة Central Neo-Aramaic فتمثلها آرامية طورعابدين وآرامية “ملحثو” بجوار دياربكر في تركيا.
والآرامية الحديثة الغربية West Neo-Aramaic هي اللغة المحكية في ثلاث قرى بجوار دمشق وهي: معلولا وجبعدين وبخعة. سكان جبعدين وبخعة هم من المسلمين السنة اما غالبية سكان معلولا فهم من المسيحيين (من طائفة الروم).
ومن الخصوصيات القواعدية في الآرامية الحديثة ان اختفى منها الفعل الماضي وحل استعمال اسم المفعول بدلاً منه، كما انها تستعمل اسم الفاعل للزمن المستقبل.
ان الآرامية الحديثة (السورث ولهجة طورعابدين وغيرها من اللهجات المحكية) لم تنبثق عن السريانية الفصحى كما يعتقد بعض الاخوة السريان، انما الآرامية المحكية والسريانية الفصحى شقيقات تولدت من تطور آرامية اقدم عهداً منهن.
يبلغ عدد الناطقين بمختلف فروع الارامية المحكية حوالي المليون ونصف نسمة (هناك اليوم حوالي خمسة تلفزيونات سريانية تبثُّ بالآرامية الحديثة: اثنان يبثان بالآرامية الحديثة المتوسطة (لهجة طورعابدين)، وثلاثة يبثون بالآرامية الحديثة الشرقية (السورث)، بالاضافة الى قنوات محلية أخرى).