المسيحيون السريان وحضارتهم المنسية
المسيحيون السريان وحضارتهم المنسية
منسى موريس
الحوار المتمدن-العدد: 6765 – 2020 / 12 / 19 – 20:42
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
التاريخ هو المعلم الأكبر للبشرية لأنه يمثل خبرة الإنسان في هذا الوجود فهو يحتوى على النماذج الناجحة أو الفاشلة ومن الذكاء والواجب أن يقرأ المرء التاريخ بهدف إكتساب الخبرات السابقة لأن التاريخ ليس مجرد أحداث مرت ولايمكنها أن تعود مرة أخرى لكن التاريخ يمكن أن يعود و يتكررللأسوأ إذا كررنا نفس أخطاء السابقين ويمكن أن يعود إلى الأفضل أيضاً إذا إستفدنا من كل النماذج التاريخية الناجحة.
ومن النماذج التاريخية المشرفة والناجحة وللأسف المنسية أيضاً ” الحضارة السريانية ” هي بالفعل حضارة ينبغي أن نقف عندها كثيراً لماذا ؟ لأنها حضارة شاملة إهتمت بالإنسان من جميع جوانبه العلمية والروحية والمعرفية فهى يحق لها أن تكون حضارة إنسانية عالمية والمسيحيون السريان كانوا روادها ويجب أن نُسلط الضوء على القليل من جوانب هذه الحضارة العظيمة لأننا نسمع دائماً عن الحضارة العربية ولكن يغيب عن أذهاننا جهود السريان وحضارتهم العريقة.
والسريان هم من العنصر الآرامى الذى دخل إلى العراق وبلاد الشام في الألف الثانى قبل الميلاد وبعد إعتناقهم المسيحية في القرن الأول إهتموا بالفكر والأدب والطب والفلسفة والهندسة والموسيقى والفنون والترجمة واللاهوت فكانت حياتهم غنية بالعلوم والمعارف في شتى المجالات ولم يبخلوا على البشرية بهذه المعارف لكن صدروها لغيرهم وكانوا جسور ناقلة للعلم والثقافة « ولولاهم لما عرفت الفلسفة اليونانية وعلومها مبكرة عند العرب ولما ظهرت ظلالها واضحة في الفكر العربى أو في العقل الإسلامي وفيما صدر عنه من إنتاج علمى »(1)
« ولقد كان السريان هم حلقة الإتصال بين العلم الإغريقى والإسلام»(2) و«ماقاموا به من الترجمة آلت فائدته إلى العلم عند العرب والفرس ، والذين إشتغلوا بنقل كتب اليونان إلى العربية فيما بين القرنين الثامن والعاشر الميلادى يكادون جميعاً يكونون من السريان»(3)
وكانوا أطباء الخلفاء وعلى سبيل المثال عائلة بختيشوع ” اى عبد المسيح ” فكان «جورجيس بن بختيشوع الجنديسابورى كان طبيباً حاذقاً نبيلاً له تأليف في الطب وخدم الرشيد الخليفة ومن بعده ، وحل محل أبيه بختيشوع عند الخلفاء ونشأ في دولتهم»(4) وترجموا السريان الكتب الطبية إلى العربية والسريانية فنجد ” حنين ابن إسحاق” وحده «ترجم إلى السريانية من كتب جالينوس خمسة وتسعين كتاباً وترجم إلى العربية تسعة وثلاثين كتاباً»(5) ولم يكن محصوراً فقط في الإطار الطبي لكنه ترجم كتاب ” المجسطى ” لبطليموس و ترجم ” إقليدس وأرسطو ” فكان هذا الرجل موسوعة علمية متنقلة وبرع في الترجمة وكذلك إبنه ” إسحق بن حنين” ترجم الكثير من الكتب اليونانية إلى العربية ، ونجد ” متى بن يونس” المنطيق الذى تخصص في دراسة المنطق وترجم كتاب الحكمة ” لأرسطو ” ونجد الكثير من المترجمين أيضاً أمثال ” يوحنا بن ماسويه ، قسطا بن لوقا وغيرهم..” ونجد المنطيق والفيلسوف الكبير ” يحي بن عدى ” «كان رئيس المدرسة الأرسطوطالية في العالم العربى»(6) وله مقالات فلسفية لاهوتية يدافع فيها عن الإيمان المسيحي وقد رد على حجج ” الكندى” ضد الثالوث(7) ومن كثرة علمه قال عنه ” إبن النديم” «كان أوحد دهره»(8) ونجد أن ” يوحنا بن حيلان ” كان له الفضل في تعليم ” الفارابى “«وقال أبو نصر الفارابى أنه تعلم من يوحنا بن حيلان إلى آخر كتاب البرهان »(9) ونستطيع أن نقول بعد كل هذا لولا مجهودات المسيحيون السريان ماكان وصل العلم والمعرفة إلى العرب والفرس وأما عن الفنون «راجت عند السريان أسواق الفنون الجميلة كالنقش، والحفر، والتصوير، والزخرفة، والتطريز، والهندسة، والموسيقى، وتجويد الخط، فأتقنوها منذ أقدم العصور وبرعوا فيها، ولعلهم فاقوا غيرهم من الشعوب بما خلفوه من الآثار المستبدعة في الفنون المذكورة ، وما برحت بعض معاهدهم القديمة فضلا عن متاحف الشرق والغرب تشتمل على طرائف من تلك الذخائر النفيسة مما يدهش العقول ويبهج الأبصار»(10).
بعض أهم مدراسهم.
1- مدرسة الرها : إزدهرت من القرن الثانى إلى الخامس أنشأها ملوك الرها الأباجرة ومن أئمة مشاهيرها ” العلامة مار أفرام السريانى ، برديصان ، ربولا ، يهيبا “
2- مدرسة نصيبين اشتهرت في القرن الرابع وعاشت حتى القرن السابع، وفيها نبغ مار يعقوب الكبير (338م) وخلفاؤه في كرسي نصيبين، وفي هذه المدرسةعلم” نرساي” (507)، وباباي الكبري (627م)، وغيرهما من مشاهير الأساتذة.
3- مدرسة رأس العنين اشتهر أمر هذه المدرسة في العصر الذهبي، وكان مركزها على ضفة نهر الخابور بين رأس العني والحسجة بالقرب من قرية المجدل، وتفرد رهبان ديرها المعروف بدير «قرقفة» بضبط حركات ألفاظ الكتاب المقدس وتجويد قراءته وعِرف من رأس العني سرجيس الرأس عيني (536م) إمام عصره في الطب والمنطق والفلسفة، وهو أول النقلة من اليوناني إلى السريانية(11)
ويمكننا في الأخير أن نقول أن الحضارة السريانية رسخت لكل العلوم والمعارف وهى نموذج ناجح يجب على المسيحيين إستحضاره في هذا العصر وعلى الكنيسة في الشرق الأوسط أن تستثمر في الإنسان في عقله وروحه وفكره مثلما فعل السريان من قبل لأنهم لم يفصلوا بين الإيمان والمعارف بل إنفتحوا على العالم وإهتموا بالتراجم والعلوم وخرجوا من تفكيرهم المحلى حتى أصبح فكرهم عالمى بعكس الواقع البائس الذى نعيشه اليوم حيث إكتفينا بما عندنا وتقوقعنا داخل صناديق طوائفنا الضيقة ، المسيحيون السريان آمنوا أن المسيحيى الحقيقى يجب أن يفيد غيره من البشر ويجعل من هذا العالم عالم أفضل لذلك لم يتركوا علم إلا وأبدعوا فيه وهذا هو الإيمان الحقيقى الإيمان الذى يغير العالم والإنسان للأفضل وهذا هو المبدء الذى جاء من أجله ” السيد المسيح”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1- حسين عون : العراق وما توالى عليه من حضارات ص (142) طبعة ثانية
2- الشحات السيد زغلول الهيئة : السريان والحضارة الإسلامية العامة المصرية للكتاب 1975( ص2)
3- دى بور