تَخبُّط روما باسمي الكلدان والآشوريين المُنتحلين ج2‏

تَخبُّط روما باسمي الكلدان والآشوريين المُنتحلين ج2‏

يتبع ج1

وتحت عنوان (استخدام الرومان للأسماء) يقول الأب جان فييه الدومنيكي: إن وثائق الدوائر البابوية التي تضاعفت نتيجةً محاولات توحيد النساطرة بكنيسة روما في القرن السابع عشر والثامن عشر، فحاولت روما إطلاق أو ترتيب بعض التسميات، ولا يزال هناك بعض التردد في هذا الأمر، فعلى سبيل المثال ممثل روما ليونارد آبيل يستخدم سنة 1597م مصطلحي، الأمة الكلدانية في بلاد آشور أو الأمة الآشورية دون تمييز، بل يذهب إلى القول عن مقر كنيسة بابل (الكلدان فيما بعد) في جزيرة بن عمر (تركيا)، أنه في الموصل، وفي الوثائق الرسمية هو مدينة الموصل في أثور الشرقية، والبطريرك مار عوديشو الرابع (1555-1571م) خليفة سولاقا (الكلداني لاحقاً) سمّتهُ روما أحياناً، بطريرك الآشوريين والكلدان، لكن في معظم الأحيان هو بطريرك الآشوريين والموصل أو بطريرك الأشوريين في المشرق، وإيليا هرمز مطران آمد (ديار بكر) ممثل البطريرك شمعون دنحا التاسع في روما، يُطلق على نفسه سنة 1582م، كلداني من آشور، ويسأل الكاردينال كارافا أن أمته لا تُسَمَّى نسطورية منذ الآن، بل، الكلدانية الشرقية في بلاد آشور، وفي الواقع إن وثيقة سنة 1610م تتحدث عن الكلدان الشرقيين.

 

لقد لاحظ الكاردينال تيسران، أنه في نفس الوقت الذي يجري فيه تثبيت خط سولاقا (نيسكو: أول بطريرك نسطوري تكثلك الذي ستُسَمِّى كنيسته فيما بعد كلدانية)، أعطته روما لقب بطريرك الآشوريون في المشرق، بينما أعطت منافسه النسطوري (التي ستسَمَّى كنيسته فيما بعد آشوريين) البطريرك شمعون برماما إيليا لقب بطريرك بابل، وفي الواقع لم تكن آشور تخضع لبطريرك الأشوريين الشرقيين، لأن حدود هذه المناطق كنسياً كما تم تحديدها سنة 1610م، كانت مخصصة لبطريرك بابل إيليا السابع، وهي أبرشية تمتد من آمد (ديار بكر) ​​إلى آشور )الموصل) وبابل والبصرة، وصولاً إلى أربيل وهكاري وبلاد فارس، أي ما يقرب من كل العراق الحالي، إضافةً إلى جزء من جنوب تركيا، في حين سلطة بطريرك الآشوريين في المشرق شمعون العاشر كانت من بلاد فارس إلى جولاميرك، ومن سعرد إلى آمد، فكيف ستحتفظ روما من الآن فصاعداً بهذه التسميات التي الأطراف المعنية نفسها لم تستخدمها أبداً؟، فالبطريرك إيليا الثامن إضافةً للقبه بطريرك بابل، استخدم لنفسه بطريرك المشرق لكرسي القديس تادوس، ومن ناحية أخرى فشمعون الخامس (شمعون الثامن دنحا) عندما كتب للبابا كليمنت العاشر سنة 1670م، دعا نفسه بطريرك الكرسي في المشرق، (أرجو ملاحظة أنه حتى جان فييه يتخبط، فيُسَمَّي شمعون الخامس، ثم يضعه بين قوسين، ويُسَمِّيه شمعون الثامن دنحا).

 

ابتداءً من عام 1681م، عندما اعتنق الكثلكة مطران آمد وحمل لقب البطريرك يوسف الأول، أصبح ثلاثة بطاركة: يوسف الأول بطريرك الكلدان أو بطريرك بابل في آمد، والثاني شمعون في تركيا- الحدود الإيرانية، والثالث إيليا لبلاد ما بين النهرين، ومركزه في دير الربان هرمز (ألقوش)، أو الموصل نفسها، وباختصار، تظهر وثائق روما في استخدام عنوان أثور من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر لتسمية البطريرك من الحدود التركية الفارسية، بينما البطريرك الذي اعتمد عليه في تسمية بلاد أثور القديمة، يُسَمَّى، بطريرك بابل.

 

ينهي الأب فييه كلامه عن التخبط باستهزاء وتهكم على الآشوريون والكلدان الحاليين الجدد بالقول المفروض على القوم أن يعتمدوا كيف يُسَمِّون أنفسهم بلغتهم وفي مصادرهم وليس في مصادر الآخرين كالأوربيين، خاصة أن الكلدان والآشوريين الذين يدَّعون زوراً أنهم سليلي الآشوريون والكلدان القدماء سبقوا اللاتين والإيطاليين، ليأتي أخيراً اللاتين والإيطاليين والإنكليز فيخلطون الحابل بالنابل والجغرافية بالتاريخ، والأسماء بصيغة القوم الأصلية إلى صيغة لغتهم الأجنبية لتصبح هي المرجع ويحددوا هم أسماء تلك الأقوام، ويستشهد باسم أسلاف الآشوريين الحاليين وهو السريان وكيف يأتي الاسم في المصادر المارونية السريانية وكيف يترجموه للعربية؟، قائلاً:

الأمر واضح ويكفي أن نفهم بعضنا البعض، لكن يبدو أن الجغرافيا والتاريخ لم يكن لهما سوى دور ضئيل في تعيين الأسماء المختلفة، ومرة أخرى قبل الحديث عن الآشوريين، يجب على المرء أن يلاحظ كيف يُترجم الموارنة الاسم باللغة السريانية والعربية في أدبياتهم ومراسلتهم، هل أثوري أم سرياني؟، ولكن لسوء الحظ يبدو أن الصيغ اللاتينية أو الإيطالية للأسماء أصبحت هي التي يُستند إليها.

(مقال فييه الدومنيكي لسنة 1965مThe Syrian East, Madenkha Suryaya) ، السريان الشرقيون، سورايَيَا مدنخا(، وانظر الكاردينال، أوجين تيسران خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية، ص113-114).

 

نتيجةً لهذا التخبط فأسماء البطاركة وألقابهم وترتيبهم وسنة جلوسهم أو وفاتهم في قوائم سلسلة بطاركة الكلدان والنساطرة في هذه الفترة المضطربة مختلفة بين كُتَّاب الكنيسة ومؤرخيها أنفسهم، فقسم اعتمد على تاريخ الضريح واعتبر الولادة سنة جلوس، وقسم سَمَّى خلفاء يوحنا سولاقا شمعون الثامن، التاسع واستمروا بالعاشر..إلخ، بينما في الحقيقة سولاقا هو الثامن، وقسم خلط بترقيم الإيليين والشمعونيين، وغيرها، لذلك ترى الجداول تختلف بين يوسف حبي وألبير أبونا وأوجين تيسران ولويس ساكو وغيرهم، بل وتختلف عند الكاتب نفسه من كِتاب لآخر، فمثلاً تختلف عند الأب ألبير أبونا في كتابيه، أدب اللغة الآرامية وتاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، والأغرب فهي تختلف في نفس كتاب الكاتب وفي صفحات متقاربة جداً، فالأب ألبير في كتابه، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، ج3 ص148، يُسَمِّي البطريرك إيليا (1591-1617م)، الثامن، بينما يُسَمِّيه السابع في ص150، وهو الصحيح، ويُسَمِّي البطريرك دنحا (1600-1638م) شمعون التاسع ص147، والصحيح هو العاشر، كما ذكرهُ في كتابه “أدب اللغة الآرامية”، ص670، لأن سولاقا هو الثامن، ومن طريف الأمور في ص146-147، يقول الأب ألبير عن الأب الراحل جميل شموئيل: إنه أخطأ حين ظن أن بابا روما بولس الخامس كتب رسالة في 29 حزيران 1917م إلى البطريرك إيليا التاسع، بينما هو إيليا الثامن.

 

(نيسكو) الحقيقة أن إيليا هذا، لا هو التاسع كما ظن الأب جميل شموئيل، ولا هو الثامن كما أراد ألبير أن يصحح للأب شموئيل ص147، بل هو إيليا السابع كما يقول الأب ألبير نفسه ص150، وبعدها، والسبب أن الأب أبونا وغيره نَقلَ نص الحدث من مصادر مختلفة ولم يقارنها ويدققها بل اعتمد على التخمين والرأي، كما يقول هو: لقد وقع التباس كثير في سلسلة البطاركة وتواريخهم، ونحن هنا نتبنى الأرجح حسب رأينا.(ألبير أبونا، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، ج3 ص132)، والأب ألبير أو غيره، لا يُلام، لأن ذلك الأمر ليس بالأمر الهَيَّن، ففي أحدث كتاب لكنيسة المشرق لكريستوف باومر، يضع المؤلف أربعة أقسام، ويشير بثلاث إشارات (نجمة) لسلسلة البطاركة المتشابكة، نجمة معترف بهم من روما، أي كاثوليك، ونجمتان لمن يستلموا اعتراف بابا روما، وثلاث نجمات لمن انشغلوا بالتفاوض مع روما بدون نتيجة، وطبعاً القسم الرابع لمن بقي نسطورياً.(كريستوف باومر، كنيسة المشرق، ترجمة عمانوئيل الزيباري، ص384).

 

الأب جميل شموئيل الكلداني أيضاً نتيجة التخبط بين الاسمين المنتحلين حديثاً (الآشوريين والكلدان)، لم يكن يعرف اسم كنيسته وملته بالضبط، هل هم، آشوريون أم كلدان؟، فألَّف في روما سنة 1902م كتاب: حقيقة العلاقات بين الكرسي الرسولي (روما) والآشوريين الشرقيين أو كنيسة الكلدان (الأغلبية الساحقة من الكلدان حديثاً أو من هو متعاطف معهم من الكُتَّاب الكاثوليك كالأب فييه، وهروباً من الاسم الآشوري، إمَّا يذكرون اسم الكتاب (العلاقات) فقط، أو يحذفون كلمة الآشوريون فيذكرون اسمه: العلاقات بين الكرسي الرسولي والكلدان!).

Samuel Giamil, Genuinae Relationes inter Sedem Apostolicam et Assyriorum Orientalium seu Chaldaeorum Eccles.

 

غالباً يحاول الكلدان التركيز على لقب الكلدان قبل سنة 1830م، لتبرير وإرجاع تسميتهم قدر الإمكان إلى عهد أسبق كلقب يوسف الثاني معروف ويوسف الثالث وغيرها، وهذا غير صحيح، لأنها ألقاب اختيرت بصورة شخصية ومؤقتة ثم زالت وتبدَّلت عند خلفاءهم، ولم تكن، لا روما، ولا السلطات العثمانية المدنية، ولا الآخرين يعرفوها كألقاب ثابتة ومعروفة.

 

أمَّا ألقاب وأختام بطاركة النساطرة باسم الكلدان فهي خير دليل على تخبط وارتباك الأسماء بين من صار كاثوليكياً ومن بقى نسطورياً، حيث بقيت أختام بطاركة النساطرة بالاسم الكلداني إلى سنة 1976م، عندما سَمَّوا كنيستهم آشورية، وقسم من بطاركة ومطارنة النساطرة سَمَّوا أنفسهم، النساطرة، الكلدان أو النساطرة الكلدان مثل البطريرك النسطوري روبين (روئيل) بنيامين (1861-1903م) الذي وجِّه رسالة إلى رئيس أساقفة كانتربري لمساعدته، ووقَّع باسم بطريرك الكنيسة الكلدانية القديمة، وأيضاً مطرانهُ يوحانون الذي كتب رسالة إلى كنيسة انكلترا، يُسَمِّي فيها شعبه، النساطرة الكلدان، ويقول: إن الرسالة كُتبت في شهر أكتوبر الكلداني الموافق 8 أكتوبر 1884 مسيحي، أي ميلادي.

)The Archbishop of Canterbury’s mission to the Assyrian Christians, I: Narrative of a visit to the Assyrian Christians in 1884, II: Report of the foundation of the mission in 1886, London 1891، ريلي: بعثة رئيس أساقفة كانتربري إلى المسيحيين الآشوريين، 1: سرد زيارة المسيحيين الآشوريين سنة 1884م، 2: تقرير عن تأسيس البعثة سنة 1886م، لندن 1891م، ص18، 21).   

 

من طريف الأمور أن بعض الكلدان ومنهم رجال دين، يُعيَّرون ويستهزئون بالآشوريين الذين في فترة الاضطرابات بين الكثلكة والنسطرة (1553-1830م استعمل النساطرة لقب كلداني أو استعملوا ختماً مكتوب عليه “بطريرك الكلدان (محيليا كلدايا)”، قائلين للآشوريين أنكم كلداناً، وبدورهم الآشوريون أيضاً يُعيِّرون الكلدان أن روما سَمَّت سولاقا أول بطريرك نسطوري تكثلك، بطريرك أثور الشرقية (طبعاً كان المقصود بأثور مدينة الموصل التي أحد أسمائها الجغرافية هو أثور، وسولاقا عُيَّن على كنيسة الموصل المترملة كما ذكرنا)، والمهم أن الطرفين نسوا كل التاريخ والآلاف المخطوطات والوثائق في كنائسهم وتاريخهم التي كتبها آبائهم، والذين سَمَّوا أنفسهم وشعبهم ولغتهم وكنيستهم وطقوسهم..إلخ، سريان وسريانية فقط، وبدءوا يتصارعون بعد القرن السادس عشر الميلادي، وهذا دليل على أن تاريخ الكلدان والآشوريين الحاليين الجدد يبدأ من هذا التاريخ والتخبط والأختام فقط.

وشكراً/ موفق نيسكو

يتبع جزء أخير تخبّط المطران سرهد جمو وجدوله

تَخبُّط روما باسمي الكلدان والآشوريين المُنتحلين ج1

تَخبُّط روما باسمي الكلدان والآشوريين المُنتحلين ج1

من المعروف أن الكلدان والآشوريون الحاليين الجدد لا علاقة لهم بالقدماء، إنما هم سريان انتحل لهم الغرب اسمي آشوريين وكلدان لأغراض سياسية وطائفة وعبرية لأنهم من الأسباط العشرة من بني إسرائيل الذين سباهم العراقيون القدماء، وكانت لغة اليهود المسبيين هي الآرامية (السريانية) وعندما جاءت المسيحية اعتنقوها تحت رئاسة كنيسة أنطاكية السريانية، وسنة 497م اعتنقوا المذهب النسطوري وانشقوا عن أنطاكية، لكن اسمهم بقي سريان، وسُمِّيوا نساطرة أيضاً، وفي 7 أيلول 1445م،جحد طيمثاوس مطران قبرص الإيمان النسطوري واعتنق الكثلكة فأمر البابا أوجين الرابع تسمية كنيسته الكلدان بدل السريان النساطرة، لكن الاتفاق مات حينها حيث عاد طيمثاوس ورعيته إلى النسطرة، ثم تردد اسم الكلدان بصورة متقطعة وثبت رسمياً في 5 تموز 1830م، أما القسم الثاني النسطوري فسمته انكلترا آشوريين سنة 1876م، وثبت أسمهم رسمياً في 17 تشرين أول 1976م.

سنة 1553م انشق شمعون الثامن يوحنا سولاقا مع كثيرون هذه المرة وبصورة جدية عن كنيسة السريان الشرقيين النساطرة وأصبحوا كاثوليكياً واتحدوا بروما التي كانت تجهل أخبار ووضع السريان الشرقيين، فعندما رسمت سولاقا كأول بطريرك كاثوليكي في العراق، لم تُسَمهِ، كلداني، بل بطريرك الموصل أو أثور، والسبب أن أحد أسماء مدينة الموصل الجغرافية بالسريانية، هو أثور، والمهم أن روما اعتقدت أن بطريرك الموصل النسطوري برماما قد توفي، وترمَّلت أبرشية الموصل، علماً أن البطريرك برماما كان لا يزال حياً وتوفي سنة 1558م. وهذه هي الوثيقة الأصلية من أرشيف الكنيسة الكلدانية، وتعليق الأب بطرس حداد عليها).

 

ويوحنا سولاقا ليس أول بطريرك كاثوليكي في تاريخ العراق فحسب، بل هو أول عراقي كاثوليكي في التاريخ، وقد قام سولاقا بنقل مقره من ألقوش في العراق إلى ديار بكر في تركيا خوفاً من النساطرة، وفعلاً اغتاله البطريرك النسطوري برماما سنة 1555م، وسُمِّي شهيد الاتحاد (أي الاتحاد مع روما)، وانشقت الكنيسة بعد سولاقا إلى ثلاثة أقسام، الشمعونيون والإيليون واليوسفيون، واختلط الحابل بالنابل أكثر، ولأن الاسمين الآشوري والكلداني مُنتحلين وغير حقيقيين، فقد اختلط الاسمان على كثيراً من الرحالة، بل حتى روما نفسها كانت تجهل الأسماء وتتخبط بها، وهي موضوعنا.

يقول البطريرك الكلداني عمانوئيل دلي (2003-2012م): إن لقب جاثليق أو بطريرك الموصل في أثور (الذي أطلق على سولاقا) بقي مستعملاً حتى أواخر القرن السادس عشر تقريباً، وعندما بدأ المرسلون والرحَّالة الغربيون يجوبون بلادنا ويطلعون أكثر فأكثر على تقاليدها وكنائسها وأصالة تراثها، كتبوا تقارير عن ما رأوا واطلعوا عليه من المعلومات التاريخية والدينية والجغرافية، جاء فيها الغث والسمين، فقد أخطأوا عندما ظنوا أن بغداد، هي بابل، وأن البطريرك الجالس في دير الربان هرمز (ألقوش) قرب آشور، وحالياً الموصل، هو في ديار بابل، فخلطوا الحابل بالنابل، وخبطوا بين الجنوب والشمال، وهكذا ابتدأ قليلاً فقليلاً اسم بابل يعلو ويتغلب على بقية الأسماء، لأنه اسم قديم ومشهور في الكتاب المقدس، وبابل هي عاصمة الكلدان، فباشرت روما استناداً إلى التقارير التي تصلها والتي تحمل اسم الديار البابلية منذ نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر تُطلق على البطريرك اسم بطريرك بابل على الكلدان، وهذه الألقاب ناجمة برأينا عن قلة خبرة العاملين في الدوائر الرومانية آنذاك.

ويضيف البطريرك دلي قائلاً: إن البابا بيوس الرابع كتب سنة 1565م إلى البطريرك عبديشوع الجزري خليفة سولاقا الكاثوليكي يُلقَّبه “بطريرك الآشوريين أو الموصل، أي بطريرك الموصل في أثور الشرقية”، لكن في صورة إيمان عبديشوع الجزري نفسه المحررة في روما سنة 1562م يلقِّب نفسه: بطريرك آمد (ديار بكر) في ديار المشرق التي هي آشور. (البطريرك الكلداني عمانوئيل دلي، المؤسسة البطريركية في كنيسة المشرق، ص143-145. وانظر للبطريرك دلي نفس المقال تقريباً، مجلة بين النهرين 1989م، ص21).

ونتيجة لاختلاط الحابل بالنابل كما يقول البطريرك، أصبح كل واحد من البطاركة يُسَمِّي نفسه ما يعجبه، أمَّا روما نفسها فكانت جاهلة ومحتارة بماذا تُسَمِّيهم، لذلك من الطريف أنها سَمَّت سولاقا الكاثوليكي +1555م، وبعض خلفاءه الذين تنحدر منهم الكنيسة الكلدانية الحالية “بطريرك أثور، أي الموصل”، بينما سَمَّتْ خلفاء برماما النسطوري +1558م الذين تنحدر منهم الكنيسة الآشورية الحالية، “بطريرك بابل”، أي عكس المطلوب تماماً، ويقول البطريرك ساكو: الجدر بالذكر إن رئاسة الكنيسة الآشورية الحالية تنحدر من خط سولاقا (يقصد كنيسة الآشوريين تنحدر من خط الذين سمتهم روما كلداناً)، في حين تتواصل سلسلة كنيسة الكلدان مع خط ألقوش- الموصل النسطوري (يقصد كنيسة الكلدان تنحدر من خط الكنيسة التي سمَّاهم الإنكليز آشوريين). (البطريرك لويس ساكو، خلاصة تاريخ الكنيسة الكلدانية، ص36).

والبطريرك إيليا السابع (1591–1617م) المتأرجح بين الكثلكة والنسطرة، في الرسالة التي وجهها إلى البابا بولس الخامس، يُلقِّب نفسه “بطريرك بابل”، ومع ذلك وقَّع نهاية الرسالة: أنا إيليا بطريرك المشرق، وليس بابل.( البطريرك الكلداني عمانوئيل دلي، المؤسسة البطريركية في كنيسة المشرق، ص145).

والبطريرك شمعون دنحا (1581-1600م)، بعث معاونه المطران إيليا هرمز حبي اسمر إلى روما وقدَّم تقريراً باسم البطريرك جمع فيه كل الأسماء ليخلط الحابل بالنابل فعلاً، حيث جاء في مطلعه: أنا إيليا رئيس أساقفة آمد (ديار بكر) في بلاد ما بين النهرين، كلداني من أثور.

أمَّا مبعوث روما إلى الشرق لتقصي الحقائق مطران صيدا اللاتيني ليوناردو هابيل فقد رفع تقريراً لبابا روما غريغوريوس الثالث عشر سنة (1583–1585م) يُسَمِّي الرعية، مرة الأمة النسطورية، وتارة كلدانية، وأخرى كلدان أثور، وأن المقصود بأثور هو مدينة الموصل في بلاد بابل، إذ يقول: زرت بطريرك الأمة الكلدانية في أثور، وأولئك من الأمة النسطورية الذين يسكنون مدينة آمد وسعرد ومدن أخرى، تمردوا على بطريركهم الساكن في دير الربان هرمـز قرب مدينة أثور التي تُسَمَّى اليوم، الموصل- في بلاد بابل، فأطلقوا على أنفسهم اسم، كلدان أثور الشرقية. (المطران الكلداني سرهد جمو، كنيسة المشرق بين شطريها، مجلة بين النهرين، 95–96، 1996م، ص196-197).

والبطريرك يوسف الأول (1667–1696م)، وبعده يوسف الثاني معروف، لُقَبَ، كلداني فقط، بدون بابل، لكن خلَفهما يوسف الثالث (1713–1757م)، لُقِّبَ، بطريرك بابل فقط، بدون الكلدان.(ألبير أبونا، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، ج3 ص237، وانظر البطريرك دلي، المؤسسة البطريركية في كنيسة المشرق، ص145. (ملاحظة) إن ألقاب البطاركة لم تكن ثابتة في كل الوثائق، فنحن نتكلم ربما عن وثيقة أو وثيقتين فقط وردت فيها هذه الألقاب).

وفي 29 حزيران 1617م كتب البابا بولس الخامس رسالتين في نفس اليوم، الأولى إلى البطريرك شمعون (1600-1638م) خليفة سولاقا الكاثوليكي الذي تنحدر منه الكنيسة الكلدانية الحالية، يُسَمِّيه، “بطريرك الآشوريين”، والثانية عِبَر توما دي نوفاري مبعوث روما الفرنسيسكاني الموجود في الشرق لكي يوصلها إلى البطريرك النسطوري إيليا (1591-1617م) خليفة البطريرك برماما النسطوري الذي تنحدر منه كنيسة الآشوريين الحاليين، ويُسَمِّيه البابا “بطريرك بابل”، أي بالعكس، والطريف أن البطريرك إيليا هذا الذي كتب له بابا روما كان قد توفي في 26 أيار 1617م، لكن روما لم تكن تعلم ذلك. (المصدر السابق، ج3 ص148، 154.علماً في ص148 أخطأ الأب ألبير أبونا بتسميته إيليا، الثامن، والصحيح هو السابع كما ذكره هو ص150 وبعدها).

علماً أن المقصود بأثور وبابل هما الموصل وبغداد، كما مر بنا، فعمانوئيل دي سانت ألبرت، النائب الرسولي لكنيسة روما في بغداد سنة 1749م لمتابعة شؤون الكاثوليك، تُسَمِّيه روما: النائب الرسولي في بابل (الكاردينال أوجين تيسران، خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية، ص132).

ما يبرهن جهل روما والبابا وجين الرابع بالذات عن مسيحيّي الشرق وأسمائهم أن البابا اعتقد بوجود إمبراطور مسيحي في الهند، فأرسل مبشرين سنة 1439م ورسالة إلى ملكهم يقول فيها: إلى ولدي الحبيب كثيراً في المسيح إمبراطور الهند الجليل توماس، مع العلم أنه لا يوجد هكذا إمبراطور للهند لا مسيحي ولا هندوسي.(E.M. Philip, The Indian Church of St. Thomas. فيلبس، كنيسة القديس توما الهندية، 1950م، ص102-103، علماً أن البابا أوجين الرابع هو أول من أمر بتسمية السريان النساطرة كلداناً).

يقول المطران الكلداني سرهد جمو: إن روما اعتقدت بناءً على ما عُرض عليها حينها أن رئيس الدير يوحنا سولاقا انتُخبَ خلفاً للبطريرك النسطوري شمعون برماما على أساس أن الأخير قد توفي، فظنَّت روما أنها أبرمت الاتحاد القانوني مع كنيسة المشرق قاطبةً، وإذ ثبت لدى روما لاحقاً أن برماما (النسطوري) لا يزال حياً يُرزق، وجدت نفسها أمام واقع جديد هو انقسام المشرق إلى مجموعتين، عائلة أبونا النسطورية، والمجموعة الكاثوليكية برئاسة خلفاء سولاقا، وقد كانت تلك الفترة صراع حاد بين سلالتين، لذلك في آذار 1610م كتب البطريرك إيليا النسطوري إلى البابا بولس الخامس يُسَمَّي نفسه، إيليا بطريرك بابل، ويعتقد جمو أن هذه أقدم وثيقة فيها ذكر بابل، ويُدرج المطران جمو جدول بسلسلة جثالقة كرسي المشرق يُبين فيها التخبط والاختلاط بين السلالتين، علماً أنه نتيجةً للتخبط، فالمطران سرهد جمو نفسه أخطأ في الجدول، فقمتُ بتوضيحه وتصحيحه (سرهد جمو، كنيسة المشرق، مجلة بين النهرين 1996م، ص197-198. وسلسة المطران مُقاربة لسلسلتي في الملحق نهاية الكتاب، لكني أُوكِّد أن تفصيلي أكثر وضوحاً ودقة).

وسنتناول المطران المُتكلدن سرهد جمو وندرج جدوله الذي صححناه في مقال مستقل بعد الجزء الثاني من مقالنا هذا.

وشكراً/ موفق نيسكو

 

تاريخ الدولة الكلدانية (قبيلة كلدة الآرامية) ج الأخير

تاريخ الدولة الكلدانية (قبيلة كلدة الآرامية) ج الأخير

يتبع ج2
ذكرنا أن اسم نابو بلاصر الذي أسس دولة الكلدان واسم ابنه نبوخذ نصر وخلفائهم الأربعة هي أسماء أكدية، وبُسمّي نابو بلاصر بابل، بلاد أكد، وحتى آشور يسميها، بلاد أكد، وأهل بابل في زمنه يعتزون بانتصاره والدفاع عن بلاد أكد.إلخ

إن نابو بلاصر عندما كان أميراً من قِبَل الآشوريين على بيث ياكيني أو القطر البحري في الجنوب أعلن شبه استقلاله عن دولة آشور، فلقَّبَ نفسه، شار-مات-تام- تيم، أي، ملك أرض البحر، وعندما أسقط دولة آشور سنة 612 ق.م.، كان لقبه ملك أكد، وليس ملك الكلدان، وسَمَّى بابل، بلاد أكد. (جيمس بريستد، انتصار الحضارة، ص227، 231. ويقول بريستد: إن اسم بلاد منطقة بابل في زمن نبوخذ نصر، هو، أكد، لكننا نطلق عليها اليوم كلدايا)، أي أن اسم كلدايا متأخر.

وتعتبر كتابات نبوخذ نصر لسنة 573ق. م. في نهر الكلب وبريصا، لبنان، أطول كتابات بابلية مكتشفة، وهي مكتوبة باللغة الأكدية، ويعتبر النص نموذجاً يُبيِّن استمرار تأثير اللغة السومرية على الأكدية في دولة نبوخذ نصر في مرحلتها التاريخية المُسمَّاة البابلية الحديثة، فالكتابة مزيج من كلمات أكدية ورموز سومرية، ففي نقش نهر الكلب:

وحدات القياس هي (kùš) السومريّة، يقابلها في الأكديّة (ammatu ذراع)، وتعادل حوالي 55 سم.

اسم نهر الفرات كُتب بالصيغة الأكدية (Purati)، بينما اسم نهر دجلة كتب بالسومريّة (idigna).

اسم ملك بابل، يرد بصيغتين تمتزج فيهما السومريّة والأكدية، هما:

  • (dpa–níg.du– [ú]– ṣu–úr/ṣur) العمود الثاني، 25، الرابع، 6.

  • (dag–ku–du–úr–ri–ú–ṣu–úr) العمود الثالث، 30.

أمَّا اسم مدينة بابل، فاستخدم بثلاث صيغ:
– الصيغة السومرية القديمة (tin.tir) العمود الأول، 6، الكسرة الثانية، 3.

– الصيغة السومرية الأحدث (ká.dingir.ra) الكسرة الثانية، 7.

– الصيغة البابلية (babilu) العمود الأول، 15، الثاني، 26، الرابع، 7، 16.

وبالنسبة للخليج العربي فيسَمِّيه البحر السفلي (ti–amat ša–ap–li–ti).

أمَّا أسماء المعبد فكلها سومرية.

وفي نقش بريصا أيضاً، العمود السادس، يُعدد نبوخذ نصر ألقابه: ملك بابل، مجدد هيكل شاكيل وزيدا.( د. شيراز علي حميدان، أوراق ثقافية، مجلة الآداب والعلوم الإنسانية، 19، تموز 2019م، نقش الملك البابلي نبوخذ نصر (الثاني) عند مصب نهر الكلب، وزارة الإعلام اللبنانية، الوكالة الوطنية للإعلام، 2012م، بريصا معلم سياحي أثري، تحقيق جمال الساحلي.

أنا الملك نبوخذ نصر ملك بابل، أنا الذي يحافظ على إزانجيلا وأزيدا الابن الأكبر لنابو بلاصر ملك بابل. (أنطوان مورتكات، تاريخ الشرق الأدنى القديم، بعنوان إمبراطورية كلدان العالمية، انتصار الآرامية، ص352-353). وهذا هو النقش.

https://1.top4top.net/p_1399gsb1r2.png

وخارج العهد القديم أيضاً، لم يُسمِّي أحداً كالفرس، اليونان، الآراميين..إلخ، الملوك الستة الذين حكموا دولة الكلدان القصيرة (612-539 ق.م.)، بملوك دولة الكلدان في عصرهم، بل أن التسمية الكلدانية جاءت متأخرة وتبدأ بكثرة من عصر المؤرخ اليوناني هيرودوتس +425 ق.م.

ولدينا رسالة بالآرامية سنة 604 ق.م. في زمن نبوخذ نصر من أدون العسقلاني أمير عسقلان الفلسطيني إلى فرعون مصر نخو الثاني (609-595 ق.م.)، يُلقِّب فيها ملك بابل، الملك البابلي (جون برايت، مجلة لسان المشرق 1949م، رسالة جديدة باللغة الآرامية إلى فرعون مصر سنة 604 ق.م. ص211-220).

وتتحدث الوثائق البابلية عن غزو نبوخذ نصر ليهوذا سنة 587 ق.م.، وأسر ملكها صدقيا قائلة: أخذوا الملك صدقيا إلى ربلا مقام ملك بابل (نبوخذ نصر) (جورج رو العراق القديم، ص508. كانت ربلا قرب حمص مركز قيادة نبوخذ نصر).

ويوجِّه داريوس الفارسي سنة 521 ق.م. القائد فندفارنا للقضاء على اراخا بن هلديتا الذي ادعى أنه وريث نبونيدس آخر ملوك الكلدان، قائلاً: قلتُ له، قاتل هذا الجيش البابلي الذي يرفض أن يتبعني، فزحف فندفارنا ضد بابل وقاتل البابليين (المصدر السابق، ص)، 546وغيرها.

وخلاصة الموضوع أن الدولة البابلية الأخيرة أي السلالة البابلية الحادية عشرة، كانت سلالة بابلية أكدية، لكن عائلة نبوخذ نصر الحاكمة فقط كانت آرامية جاءت من مملكة بيث ياكيني الآرامية من جنوب العراق وحكمتها، ولم تسمي الدولة نفسها كلدانية، لكن اليهود سموها كلدانية في العهد القديم، ثم اشتهر الاسم على يد اليونان بعد ذلك، ولا علاقة لتلك الدولة العراقية بالكلدان الحاليين الذين هم سريان انتحلوا اسم الكلدان لأغراض سياسية وطائفية.

ونختم بأمر طريف هو أن الأستاذ بنيامين حداد وهو أديب من كنيسة الكلدان كان منصفاً ويقول إن الكلدان هم سريان ودائماً يُسمِّي اللغة سريانية ويدافع عنها قبل أن يخضع لضغط القوميين الكلدان الحاليين الجدد، فتكلدن فعلاً وبدأ يزور هنا وهناك، ومع ذلك من الإنصاف القول إنه رغم ذلك لا زال هو أفضل من غيره، والمهم أنه قد ألَّف كتاباً اسمه القطر البحري (بيث قطراي) الأصول الأولى للكلدو آشوريين السريان، نشره مركز جبرائيل للرهبانية الأنطونية الهرمزدية الكلدانية، بغداد 2006م، وهذا هو الكتاب:

https://6.top4top.net/p_1399urdyq1.png

ويتحدث الكتاب عموماً عن الكلدان وبشكل خاص عن مملكة بيث ياكيني الآرامية جنوب العراق التي امتدت إلى البحرين وقطر، وهي الإمارة التي تنحدر منها قبيلة نبوخذ نصر، وتُسَمَّى سلالة القطر البحري، ولا شك أن الكتاب فيه معلومات جيدة لكن مع تزويرات جيدة أيضاً باستعمال كلمات ملتوية للقارئ البسيط، ولن نغوص في باطن الكتاب، لكن أرجو الانتباه فقط إلى اسم الكتاب الذي يثبت أنه لا علاقة للكلدان والآشوريين الحاليين الجدد بالقدماء، فاسم كتابه هو (الأصول الأولى, للكلدو آشوريين السريان)، وعدا اسم الكتاب الذي يؤكد أن الكلدان والآشوريين هم سريان، لكن السؤال الأهم:

إذا افترضنا جدلاً (وهو احتمال صفر) أن الكلدان الحاليين هم امتداداً للقدماء وأصلهم من القطر البحري الممتد من جنوب العراق إلى البحرين وقطر كما يؤكد الأستاذ بنيامين حداد في كتابه مستنداً إلى مصادر كثيرة (فربما ينطلي احتمال الصفر على القارئ البسيط)، لكن هل سينطلي على القارئ حتى البسيط أن أصل الآشوريين أيضاً من هناك؟.
وشكراً/ موفق نيسكو.