العرب في الهلال الخصيب قبل الاسلام

العرب في الهلال الخصيب قبل الاسلام
Matta Roham
لما كانت بيئة شبه الجزيرة العربية صحراوية ، وقليلة مواردها المائية ، كان لا بد لسكانها أن يفتشوا على المروج الخضراء لرعي قطعان الجمل وغيرها من الحيوانات الأليفة. مجاورةُ شبه الجزيرة العربية لبلاد الرافدين والشام جعل قبائلَ عربية كثيرة أن تترك مواطنها الاصلية في شبه الجزيرة العربية لتتجه نحو بلاد الشام والرافدين الغنية بمصادر المياه، حيث على أنهارها قامت أقدم الحضارات والامبراطوريات .
يعود الفضل في اطلاق تسمية عرب على العرب الى سكان بلاد الرافدين. فمصطلح عرب ܥܪܒܐ في القاموس السرياني يُفيد معنيين أساسيين هما : ( غرب ) و (صحراء) . ففي مدن بلاد الرافدين تقع الصحراء الى الغرب . وأعتقد بأن المعنى الأول لكلمة عرب كان الغرب. وثم كان معنى الصحراء لأنها تقع الى الغرب من مدنهم. وتوسع المعنى فيما بعد فشمل سكان الصحراء. وهكذا أطلق سكان بلاد الرافدين مصطلح عرب على العرب سكان الصحراء . وهذا جائز ان تسمى شعوب بأسماء من قِبل أمم أخرى . ومثال على ذلك ، تسميةُ الآراميين بالسريان إنما هي تسمية أطلقها اليونانيون أولاً على أرض غرب الفرات، ثم شمل المعنى السكان القاطنين فيها.
لم تكن بلاد الشام والرافدين غريبة على كثيرٍ من قبائل الجزيرة العربية لقرون عديدة قبل ظهور الإسلام . فقد انتشرت قبائل عربية كثيرة في مناطق عديدة من الهلال الخصيب الواسعة وشكلت تجمعات بشرية ، تعيش في ظل الممالك والامبراطوريات السائدة فيها. تمكنت هذه التجمعات من تأسيس ممالك محلية تتمتع بحكم ذاتي يمنحه لها الملك الفارسي او الإمبراطور اليوناني أو الروماني. تعاظم شأن هذه الممالك المحلية عسكرياً وسياسياً وثقافياً وتجارياً ، وتضمنت أعداداً بشرية كبيرة أطاحت بأعظم إمبراطوريتين عندما عندما توحدت تحت راية العرب المسلمين.

جاء أول ذكر للعرب في الحولية الآشورية عندما غلب الملك شلمانصر التحالف الارامي بقيادة بن حدد في معركة قرقر عام 853 ق.م . كان ملك العرب جنديبو جزءاً من هذا التحالف الآرامي ، الذي شمل ملك اسرائيل أيضاً . وقد ساهم في المعركة بألف جمل ، بينما بقيةُ الحلفاء ساهموا بالمركبات والاسلحة المتنوعة. وهذا يشير الى أن العرب في هذه المرحلة كانت اهتماماتهم اليومية ترتبط برعي قطعان الجمل .
كان للعرب علاقات جيدة مع الآراميين ، وبالمقابل كانت علاقتهم مع الاشوريين والبابليين عدائية في أغلب الأحيان ، وذلك بسبب إصرار الآشوريين على إخضاعهم وأخذ الجزية منهم ، واستمرار العرب في التمرد على سلطتهم. يتواصل ذكر العرب في التاريخ الآشوري وثم البابلي في أزمنه لاحقة عديدة ، ويتكرر ذكر عدد من ملوك آشور وبابل في استيفاء الجزية من العرب. ففي حكم تغلت فلاسر الثالث (745 – 727 ق.م) ، دفعت الملكة العربية زبيبا ، يفيد اسمها معنى الزبيب، الجزية له. كانت زبيبا ملكة قبيلة قيدار التي استوطنت واحة دومة ، المعروفة بدومة الجندل. ولما خلفتها الملكة شمسي ، ويفيد اسمها معنى الشمس ، تمردت على تغلات فلاسر بعد أن وعدته بالخضوع له ودفع الجزية . فقهرها وألحق بها خسائر وأجبرها ثانية على دفع الجزية. واستمرت شمسى بدفع الجزية للملك سركون الثاني (720-705 ق.م) الذي خلف ثغلات فلاسر الثالث. أما في فترة حكم سنحاريب الآشوري (705-681 ق.م) فقد ساءت العلاقة بينه وبين دومة وملكتها (Teʾelẖunu) . هاجم سنحاريب دومة وهزم جيشها وأسر ملكتها، وحملها معه الى بلاد آشور، ونقل معها أصنام آلهتها العربية. في عهد الملك أسرحدون (680-669 ق.م) تحسنت العلاقة بينه وبين دومة ، فعيّن الملكة (Tabūa) خليفة للملكة (Teʾelẖunu) ، وأعاد إليها أصنام آلهتها ، وفرض الجزية عليها. كذلك قام اسرحدون بتثبيت حزائيل ملكاً على قيدار ، ثم بعد وفاتة ثبّت إبنه ( ’Iauta) خلفاً له مقابل جزية اضافية سنوية، وتدخل في إحباط تمرد ضده ، ونقل أصنام آلهته إلى آشور. في حكم الملك الاشوري أشوربانيبال (688-631) ، استرد الملك (Iauta’) الآلهة (‘Atar-Samain) . لكن العلاقة مع الملك آشور ساءت ، عندما قام (Iauta’) بمهاجمة حالة التعبئة الاشورية في منطقة عبر الأردن . هزم الاشوريون (Iauta’) ، وأسروا زوجته الملكة (Adiya) ، ولكنه هرب وإلتجأ الى قبيلة نابايوت في جنوب تيماء ، وأخيراً سلّمَ نفسه للاشوريين . ثم قام الملك آشوربانيبال بتعيين Te’ri)) عوضاً عن (Iauta’) . ولما جاءت فرصة له ليتمرد على آشوربانيبال ، قام بالوقوف الى جانب ( Shamash-sham-ukin) ملك بابل (667-648 ق.م) ضد أشوربانيبال الذي هزم عرب قبيلة قيدار ونابايوت في وسط سوريا. تستمر مهاجمة الاشوريين للعرب البدو الى أيام نابونيد (555-539 ق.م) آخر ملك في بابل ، الذي احتل ستة واحات في شمال-غرب شبه الجزيرة العربية ، ضمنها تيماء ودادان اللتان قتل ملوكهما. وأقام نابونيد في تيماء مدة عشر سنوات. ولما هاجم كورش الكبير مملكة بابل في 539 ، ارسل ملك المنطقة العربية (في شمال بلاد الرافدين) قوات مؤلفة من مائة مركبة ، و عشرة الاف فارس ، ومشاة يحملون القوس نشاب ، لدعم نابونيد ، لكن جيش كورش هزمه مع بقية القوات التي وصلت للمساعدة من ملوك فريجية العظمى وكبادوكية.
ورثت الامبراطورية الفارسية (539-331 ق.م.) الامبراطوريتين الاشورية والبابلية ، وورثت كل من كان تحت سلطانهما. فأصبح العرب الذين قدموا الجزية سابقاً للاشوريين والبابليين ، يقدمون الجزية للفرس . حتى أن عرب جنوب فلسطين ، المتمركزين في غزة ، دفعوا 1000 وزنة (أي حوالي 30 طن) من البخور . ونعرف عن هذه الفترة بأن هيرودوت في منتصف القرن الخامس ذكر واصفاً العربية بأنها شرقي مصر ما بين النيل والبحر الأحمر . كما نتعلم بأنه بعد عام 445 ق.م. بأن جيشم (جشمو) العربي ، وعلى الأرجح أنه كان مسؤولاً من جنوب فلسطين التي تمتعت بشبه حكم ذاتي تحت الأخمينيين الفرس اصطدم مع الملك نحميا بخصوص بناء جدران اورشليم. وفي 401 ق.م. كما إلتقى اكسافون (430 -354 ق.م.) عرباً يسكنون في وسط ما بين النهرين.
أما في انتصارات إسكندر الكبير (336-323 ق.م) على الامبراطورية الفارسية ، ذُكر عنه بأنه هاجم فلاحين عرباً في جبال لبنان الشرقية. كذلك ذُكر أنه في 312 ق.م. هاجم الملك سليوقس الملقب انتيغونس ، العين الواحدة، قبيلة الانباط في جنوب الاردن التي كانت مرتبطة بتجارة البخور .
وذَكر الجغرافيُ اليوناني إراتوستينوس بأن جبال لبنان الشرقية وسهل البقاع كانت مسكونة من الايطوريين والعرب . ويصف سفوح جبال لبنان الشرقية ب (جبال العربية). ونعرف بأنه في 218 ق.م ساعد العرب في شمال-غرب عبر الاردن في مدينة رابات عمان ( حالياً عمان) الملك أنطيوخس الثالث ضد الملك بطليموس.
يستمر ذِكرُ العربِ طوال فترة حكم الفرس لبلاد الرافدين ، والروم لبلاد الشام. فالعرب الذين انتشروا في بلاد فارس والوا الفرس، والذين استوطنوا في بلاد الشام والوا الروم. فنشأ للعرب ممالك محلية تتمتع بحكم ذاتي أهمها : مملكة الانباط وعاصمتها بترا ، مملكة المناذرة وعاصمتها الحيرة ، ومملكة الغساسنة التي كانت آخر عاصمة لها بصرى.
نشأت مملكة الانباط كقوة سياسية ما بين 168 ق.م. وحتى 106 ميلادية. كانت تتمتع بحكم ذاتي تحت سلطة الأغريق أحياناً أو تحت سلطة الرومان بحسب فترة حكم كلٍ منهما لبلاد الشام . الأنباط هم أصلاً قبيلة عربية انتشرت في جنوب الشام بحثاً عن المراعي ، فأسست في واحة الرقم مدينة ( سماها اليونانيون PETRA البتراء أي الصخرة) أصبحت عاصمة لمملكتهم . استخدمت البتراء اللغة الآرامية كلغة رسمية عندما لم يُلزمهم بها حكامُهم من اليونانيين أو الرومان . فاستعمال السريانية يعني بأن هناك قومٌ من جيرانهم الآراميين كانوا جزءاً هاماً من مدينة البتراء . عاصرت البتراء ممالك آرامية محلية مثل تدمر والرها. يعود غنى البتراء الى كونها واقعة على طريق البخور الممتدة من قثبان في اليمن نحو مدن الهلال الخصيب ومصر والبحر الابيض المتوسط . شملت حدودها منطقة واسعة من صحراء النقب وسيناء والأردن . تمدد الأنباط الى أجزاء من شمال شبه الجزيرة العربية فاتخذوا من الحِجر (مدائن صالح) مدافن لأثريائهم ولكبار القوم . بَرَعَ فيها المهندسون في تنظيم استخدام المياه طوال أيام السنة . فاهتموا بحفر خزانات في الصخور لاستعمالها في أيام الصيف عندما تشحُّ المياه ، وشقّوا قنوات الري لاستخدامها في النظافة الصحية والزراعة. بنوا مدينتهم في جبال صخرية صمدت ضد الغزات إلى أن احتلها عام 106 ميلادية الامبراطور تراجان الذي أنهى وجودها كعاصمة سياسية للأنباط ، وألحقها بروما، وجعلها جزءاً من المقاطعة الجديدة المعروفة باسم Arab Petraea البتراء العربية
مع نهاية مملكة الانباط لم تقوم للعرب ممالك محلية حتى القرن الثالث الميلادي . ازدياد أعداد العرب في جنوب العراق وجنوب سوريا جعل الفرس والرومان أن يدركوا أهميتهم ، فاستخدموهم في حماية حددوهم ، ودعم جيوشهم .
في جنوب العراق كانت قبيلة بنو لخم أو المناذرة قد زادت أعدادها ، فأسست مملكتها المحلية تحت حكم الفرس الساسانيين . وتبعتها مدن عديدة مثل الحيرة، والكوفة ، والنجف ، والانبار . كان أول ملوكها عامر الاول بن عدي (268-295). اتخذ اللخميون من الحيرة عاصمة لهم ، التي كانت أولاً موقعاً عسكرياً كما يشير معناها بالسريانية ܚܝܪܬܐ ، ثم تحولت الى مدينة تجارية مهمة على خط القوافل بين بلاد فارس وشبه الجزيرة العربية ، ومركز ديني مسيحي حيث كان يدبّر حاجاتها الروحية أسقفٌ من كنيسة المشرق (الآشورية). إلى الحيرة يعزوا المؤرخون العرب أصل الكتابة العربية وتطورها. برز فيها شعراء قبل الإسلام مثل طرفة ونابغة الذبياني. كان آخر ملوكها النعمان بن المنذر ( 580-602) الذى اغتاله الفرس الساسانيون . وبعد موته حكم الساسانيون المملكة مباشرة ، لكنهم فشلوا في إخضاع المناذرة وأعوانهم من قبائل بني شيبان وبكر بن وائل ، فحدثت معركة بين الفرس والعرب في موقعة ذي قار (604-611) بقرب الكوفة ، هزم فيها العربُ الفرسَ ، وكان ذلك في زمن دعوة العرب الى الاسلام . يُفهم من حادثة قتل النعمان وانتصار العرب في معركة ذي قار بأن العلاقة بين الفرس والمناذرة وحلفائهم من القبائل العربية كانت متوترة أثناء تكوّن الاسلام كقوة سياسي عسكرية ، وهذا أحد الأسباب الهامة التي دفعت اللخميين ليكونوا الى جانب العرب المسلمين ضد الساسانيين ، فضلاً عن تعاطفهم القومي مع أبناء جنسهم .
أما في جنوب سوريا فقد كان لقبيلة بنو غسان تواجد كبير . وتعود أصولها الى اليمن . أسس مملكة الغساسنة جفنة الاول بن عامر (220-265) وكان هو أول ملوكها ، واتخذ من جابية Jabiyah في مرتفعات الجولان عاصمة له . تمتع الغساسنة بحكم ذاتي تحت البيزنطيين ، وامتدت سلطتهم الى جنوب سوريا وشرق الاردن . ساندوا البيزنطيين في حماية حدودهم من هجمات القبائل العربية ، وفي دعم جيش الروم أثناء الحروب . اعتنقوا الديانة المسيحية على المذهب الارثوذكسي المونوفزيتي ، ثم تحولوا الى المذهب الارثوذكسي الخلقيدوني الذي كان معتقد الامبراطورية البيزنطية . أنعم الامبراطور البيزنطي جوستينيوس لقب patricius على ملكهم الحارث بن جبلة (529-569) لدعم بيزنطية ضد الساسانيين الفرس. من أهم شعرائها لبيد بن ربيعة ، حسان بن ثابت . وكانت بصرى آخر عاصمة لمملكة الغساسنة عندما هاجم الاسلام الامبراطورية البيزنطية. وكان آخر ملوكها جبلة الخامس (632-638).
لم تكن العلاقة بين الغساسنة والمناذرة على وفاق بسبب موالة كل طرف منها لامبرطورية تخاصم امبراطورية اخرى. وهكذا كان حال جميع القبائل المنضوية تحت جناح كل من الغساسنة والمناذرة. فالقبائل لم تتوحد بسبب مصالحها الخاصة مع كل الامبراطوريتين الحاكمتين لجميع بلدان الشرق. ويجدر الاشارة بان هناك قبيلة كانت أكبر عدداً من الغساسنة والمناذرة مثل تغلب ، لكن لم تتاح لها الفرصة لتشكل مملكة تدير شؤونها. وقد قيل في تغلب : ( لولا الاسلام لأكلت تغلب العرب). وهذا القول يشير الى قوة تغلب عدةً وتعداداً .
أصبح مفيداً لنا من كل هذا بأن الوجود العربي في الهلال الخصيب سبق الاسلام كقوة بشرية وثقافية وعسكرية وتجارية وسياسية، بل مهّد وساند العرب المسلمين في غزو البلاد وإزالة وجود امبراطوريتين حكمتا المنطقة لمئات السنين . فالقبائل العربية المسيحية اختارت القتال الى جانب أبناء قومها من العرب المسلمين ضد أبناء دينها من البيزنطيين . وهكذا هُزم الروم أولاً في معركة اليرموك في آب 636، ثم هُزم الفرس ثانياً في معركة القادسية في تشرين الثاني من نفس العام. وأصبحت بالتالي بلاد الفرس والروم مفتوحة أمام العرب المسلمين لتأسيس دولتهم عليها والتوسع نحو الصين شرقاً واسبانيا غرباً مروراً بشمال أفريقيا .