رحلة الأب زهري الأخيرة غسان الشامي
رحلة الأب زهري الأخيرة     غسان الشامي
28 نوفمبر 2022 
يغادر الأب زهري خزعل تاركاً خلفه طيفاً من شيحٍ وريحان وبارود.
يرحل مُودِعاً ابتسامته وتقطيبة حاجبيه وعباءته وشماغه واسترسال لحيته ذاكرة كثيرين .
يمضي وقد زرع صليبه والتماع عينيه شهباً في تراب القريتين التي تبعد 85 كم عن حمص وتعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد .
زهري خزعل مثال لرجل الدين الذي لا يقف على الرصيف ، أو في الهيكل مكتفياً بالصلاة حين يطعن الوطن ويسبى الأهل، لا بل يحمل آياته وأيقونته وتراتيله ويشتري سيفاً أو بندقية ويثبت في مستنقع الموت قدميه دفاعاً عن أرضه وكرامته وأجداث أهله.
لم يتردد الأب زهري في مجابهة التدعيش الذي احتل بلدته وشرد أهله وخطفهم ، وكان من الشجاعة بمكان أن لحق أقاربه حتى الرقة وخلّصهم من القهر الداعشي.
في الطريق إلى القريتين ، وكانت داعش قد غادرتها للتو ورابطت قذاراتها على تخومها، حكينا كثيراً عن البلدة التي بدأ السريان بمغادرتها منذ القرن الخامس عشر هرباً من التصحر الطبيعي والبشري تاركين مار اليان الشيخ نهبة للجنون التعصبي وشفيعاً لمجانين الأعراب ، وما أن وصلنا حتى اكتشف أن أحد العائدين إلى البلدة ، على قلّتهم، من بقايا دواعشها متلطياً بمصالحات لم تثبت صدقيتها إلاّ قليلا.
لقد عرفت أنه لن يكون بعد اليوم للسريان المسيحيين في عمق هذه البادية السورية دور الحضور والريادة وأن يبقوا مصدّ التصحر هناك، وذلك من عاملين هما: زيارتي مع الأب زهري إلى مقبرة أهله، حيث فلحها “التنويريون الدواعر” وبالكاد دَلّني على بقايا شواهد وقبور أمه وأبيه وأهله. والثانية ما فعلوه بمار اليان الشيخ وتدمير ناووسه ، ومن تولي كاهن كان فيه العمل بمعكوس ما فعله الأب زهري من مقاومة وبقاء، فساهم بهجرة أبناء طائفته.
ذات مرة ، كنت في حمص مع العزيز نابل العبدالله وقائد القوى السهلية الروسية العماد ألكسندر سالمين، حيث قلت له :قم لترى أمك.
قال لي من أمي ؟! ، قلت له مريم العذراء فنحن على بعد خطوات من زنّارها، وكان الخوري خزعل كاهن كنيسة العذراء ” أم الزنار” دليله إلى دمعة إيمان ما يزال يرافقه، كما ترافقنا مؤخراً إلى قلعة الحصن وفي تدشين مقام زنار العذراء، وكان ممسكاً بتلابيب آلامه..ضاحكاً مازحاً مستقبلاً الناس ومقبلاً إلى الحياة.. لكن مرضه كان أقوى.
حزنت لأنني كنت مسافراً حين قصد لبنان في طريقه إلى العلاج في الهند فلم أقم بواجبه..لأن الاحتفال بهذا الرجل متعة ومودة فهو ثرُّ الحكايات عن بلده من العنب القرواني إلى العلاقات مع البادية وأهلها.
لقد سجّل خزعل ما كان يريد أن يبوح به، أتركه للعائلة التي نحب، تنشره وقتما تشاء، وأعزّي مع فاديا السيدة سوسن والعائلة ونيافة المطران الصديق متى الخوري وكهنة الأبرشية وجميع من أحبوه ووثقوا به..وكان أهلاً للثقة ، ولمن يريد معرفته أكثر عليه بحلقة ” أجراس المشرق” من القريتين.
أبونا زهري..لك الذكرى التي لا تنتهي بمأتم.
غسان الشامي
في قلعة الحصن مع نيافة المطران متى الخوري
في كاتدرائية أم الزنار حمص مع العماد سالمين ونابل العبدالله وتبدو آثار الحريق